ما هو النطاق المسموح به للمترجم بالتلاعب في الصور الشعرية؟

ولعلّ أهم ما يميز الشعر بعد الوزن الإيقاعي هي تلك الكنايات والاستعارات والتشبيهات التي عادةً ما تكون مستقاة من ثقافة اللغة المستخدمة في صياغة الشعر، وهنا تكمن المشكلة. ونعني بها الأسلوب الذي يستخدمه المترجم في نقل الصورة البيانية التي رسمها الشاعر لتوضيح مقصده. إما أن يقوم المترجم بنقل الصورة كما وردت في القصيدة بغض النظر عن مدى ملاءمتها في اللغة الهدف (target language) أو أنه يلجأ إلى استخدام صورة بيانية أخرى تتماهى والجو الثقافي والاجتماعي وأحيانا الديني والسياسي للقصيدة في اللغة الأصل ((source language. ولا نرى أن استبدال الصورة بصورة أخرى أو نقيضها كما يحدث في بعض الأحيان هو الحل الأنسب لمشكلة تباين الثقافات وذلك لأسباب مختلفة.

بالرجوع إلى الترجمات المتوفرة لأكثر من قصيدة شعرية وبالمقارنة بين الترجمة الحرفية للصورة الجمالية والترجمة المبنية على صورة أخرى يستوحيها المترجم من الثقافة والبيئة التي تحتمهما اللغة الهدف، نجد أن حكمة الشاعر أحيانا تقوده لصياغة شعرية خاصة به تتخللها صور بيانية جديدة لا توجد في النص الأصلي، فعلى سبيل المثال، ارتأى المترجم الدكتور محمد عناني استخدام صورة "وتعبث في برعمات الربيع" بدلا من "وتعبث في برعمات آيار أو مايو" من الواضح أن الهدف من التغيير الطفيف هنا هو تمكين الصورة في ذهن القارئ وتقريبها من أجواء بلداننا العربية التي يقصر ربيعها. قد يرى البعض أنه مثال بسيط لا يسبب لغطًا يذكر، بل يزيد من جمالية الترجمة ويحقق أهدافها، ولكن مَن الذي يحدّد ذلك النطاق المسموح فيه للمترجم بالتلاعب في الصور الشعرية؟ إنْ كانت الترجمة في المثال السابق قد حققت أهدافها وهذا أمر بديهي ومؤكّد، ما الذي يضمن استمرار نجاح هذا النمط من الترجمة لاسيما وأن بعض القصائد تكتظ بالرموز الثقافية والشعبية التي لا يدري كيف يطوّعها بعض المترجمين في اللغة الهدف؟ ولعل أسوأ الصور المبتكرة ما يكون مضاداً للصور الأصلية في النص الأصلي، مع العلم أن المترجم لا يقصد من عملية التضاد هذه سوى تقريب المعنى وتسهيل عملية الفهم.

في مواضع أخرى، نرى أن المترجم يعطي أولوية للصورة البيانية التي وضعها الشاعر في اللغة الأصل ويكتفي بترجمة كلماتها حرفياً حتى ولو كانت لا تناسب جو القصيدة في اللغة الهدف على اعتبار أن عدم تدخّله في النص الأصلي وعدم التغيير فيه يجعله أكثر التزاماً بسمات المترجم الناجح من حيث الدقة والموضوعية.

إنّ الالتزام بحرفيّة الصور الشعرية رغم عدم ملاءمتها في بعض الأحيان هو الحل الأنسب والقرار الذي يجب أن يتخذه المترجم بغض النظر عن مدى حرفيته وخبرته في مجال الترجمة، وذلك لأن القارئ للأدب وخاصة الشعر مهيّأ دائماً للدخول في أجواء النص وتشرّب ثقافته التي لطالما لن يتسنى له الاطلاع عليها إلا عن طريق المترجم الملتزم حرفاً وصورةً، بل إن الكثير من قرّاء الشعر يتطلعون إلى التعرف على ثقافات الآخرين من خلال الشعر وغيره من النصوص الأدبيّة.

إن المترجم ينجح أحياناً في استبدال الصورة البيانية في النص الأصلي بصورة جمالية أخرى أثناء عملية الترجمة ليحقق المعنى المنشود. ولكن وصول المترجم إلى هذه المرحلة من التمكّن تحتّم عليه أن يكون شاعراً بالدرجة الأولى أو على الأقل ملمّاً بضوابط الكتابة الشعرية لأن خيال المترجم لمحاكاة الصورة البيانية ونقلها من لغة إلى أخرى بل من ثقافة إلى أخرى لا يقل أهمية عن ضبط وزن القصيدة للإبقاء على كونها شعرا وليس نثرا. وهذه النقطة تحديدا أظنّها تقف حائلا بين المترجم وإقدامه على ترجمة الشعر، فلا غرو أن يكون الشعر آخر النصوص التي يفكّر المترجم في ترجمتها لصعوبة تبنّي صوراً بيانية تتناسب والنص في اللغة الهدف. قد يعتقد البعض أنّ الشعر لا يختلف عن غيره من النصوص الأدبية النثرية والتي تتضمن صورا بيانية يصعب ترجمتها، ولكن الصور البيانية بأنواعها تعتبر قاعدة أساسية يرتكز عليها معنى القصيدة بل ومقصد الشاعر وأحاسيسه. لهذا إن ترجمة هذه الصور في الشعر لا تحتمل وقوع أي خطأ مقارنة بالنثر الذي غالباً ما يكون أكثر إطناباً حيث يتسنى للقارئ فهم مقصد الكاتب حين يسهب في القراءة.

لذا نؤكد على أهمية الإقبال على ترجمة الشعر والحرص على نقل الصورة -إن وُجدت- كما هي دون زيادة أو نقصان حتى لو لم تضاهي الترجمة النصَّ الأصلي في تأثيرها على وجدان القارئ. ولا بأس في أن نلقي بقارئ الشعر في دوامة من التفسيرات المتعددة للصور الشعرية والتي قد تعتبر غريبة نوعا ما أو دخيلة على ثقافته، هذا إلى جانب إمكانية تزويده بهوامش تفسيرية تخفف عليه عناء البحث والتحليل، لأن ذلك بالتأكيد أفضل من أن ننأى بعيداً بجزء لا يتجزأ من أساسيات القصيدة وثقافتها وجوّها الخاص. كما أن التساهل مع مترجمي الشعر والتخفيف من عبء المسؤولية الملقاة على عاتقهم يثري حركة الترجمة وليس العكس كما يظن البعض، فالقارئ في أمس الحاجة إلى وفرة هذا النوع من الترجمات، وبالممارسة وكثرة الاطلاع نرى المترجم ذو الإمكانيات المتواضعة اليوم أحد روّاد ترجمة الشعر في المستقبل بل شاعراً جديداً مرهف الحسّ.

بقلم: رنيـن نـزار منصور
المصدر : الوفاق

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.