وسطية الحضارة الإسلامية

ولا يُكَلِّف الناس شططاً؛ ولذلك كان من الصعب فصل المثالية عن الواقعية في الإسلام، وإنما هما شرعة للبشر متكاملة تُنِيرُ لهم سبل الخير، وترسم لهم قواعد السلوك وقوانين المعاملات.

ففي المثالية تحرص حضارة الإسلام على إبلاغ الإنسان أعلى أفق ممكن من المستوى العالي الرفيع، في يُسْرٍ وراحة وطمأنينة، وفي الواقعية تراعي حضارة الإسلام ظروف الإنسان وفطرته، وحدود طاقته، وطبيعة تكوينه، وواقع حياته.

وليس في حضارة الإسلام تلك المثالية الخيالية التي لا وجود لها إلا في عالم الأحلام، مثل التي أنشأها أفلاطون في المدينةِ الفاضلة، والتي هي بعيدة كل البعد عن واقع الإنسان وما ركّب فيه من غرائز ونزعات، وما يعتريه من نقص وقصور.

كما أنه ليس في حضارة الإسلام تلك الواقعية التي تعني الرضا بالواقع، أيّاً كان وضعه أو صورته، أو أن تُطَوِّعَ حضارة الإسلام مبادئها لتوافق الحياة على أي لون، أو لتساير الواقع على أي شكل؛ فلم تأتِ حضارة الإسلام لتُرَبِّت على شهوات الناس وأنظمتهم، أو لتَرْضَى بأوضاعهم المختلَّة وتقاليدهم المعوجَّة..

إنما جاءت لتلغي كل أشكال الجاهلية ونُظُمِهَا، ولتنشِئ من ذات نفسها نظاماً خاصّاً بها، قد يتشابه في جزئيات مع واقع الناس وقد لا يتشابه؛ فقد جعل الإسلام مثلاً إنكار المنكر فريضة، ولكنه فريضة متدرِّجة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ». فأعلى درجة في إنكار المنكر تمثل المثالية، وهي لمن كان قويَّ الإيمان، ثم تنزل الدرجات مراعية ضعف قدرات البعض وتفاوتها.

وفي التوازن بين المثالية والواقعية جعل الإسلام حدّاً أدنى أو مستوى أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه؛ لأن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على نحو معقول، ولأنه أقلُّ ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين، وقد شرع هذا المستوى على نحو يستطيع بلوغه وأداءه أقلُّ الناس استعداداً لفعل الخير وابتعاداً عن الشر، وهذا المستوى يتكون من الفرائض الواجبة، والمحرمات المنهي عنها، وهذه الفرائض والمحرمات جُعِلَتْ بحيث يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاها، وعند الضرورات تراعيها الشريعة وتُقَدِّرُها قدرها.

وبجانب هذا المستوى الإلزامي الواجب بلوغه على كل مسلم وضعت الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع، ورَغَّبَتْ فيه الناس وحَبَّبَتْ إليهم بلوغه، وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات وأنواع القربات التي ترغب الشريعة في القيام بها، ويشمل -أيضاً- المكروهات والمشتبهات التي ينبغي تنزُّه المسلم وابتعاده عنها.

لكن الوصول إلى ذلك المثل أو المستوى الأعلى يحتاج إلى جهد ضخم لا يتيسَّر لكل الناس، بل هو رهين بمواهب خاصة، واستعداد خاصٍّ يتميز به القلَّة النادرة من الناس؛ لذلك لا يفرض الإسلام هذا المثل الأعلى على الجميع فرضاً، لا يُلزمهم جميعاً به، بل يرسمه أمامهم، ثم يتركهم لطاقاتهم (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا)، ويتقبل من كلٍّ ما يتقدَّم به على قدر جهده (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا).

وكذلك نلمح توازن الإسلام ووسطيته في العبادات فيما شرعه من العزيمة والرخصة؛ فالعزيمة كأداء الصلوات الخمس في السفر في أوقاتها بأعداد الركعات نفسها، ولكن لأن الإسلام يعلم أن في السفر مشقة تجهد الكثيرين من الناس؛ فقد خفف عنهم برخصة الجمع والقصر.

الحقوق والواجبات

أما التوازن الأخير الذي أردناه فهو الذي بين الحقوق والواجبات؛ فالحضارة الإسلامية ترى أنه ما من حق لفرد أو جماعة إلا كان واجباً على غيره؛ فحقوق المحكومين إنما هي واجبات على الحُكَّام، وحقوق المستأجرين إنما هي واجبات على المالكين، وحقوق الأولاد إنما هي واجبات على الوالدين.. وهكذا، ومن خلال أداء الواجبات تُراعى الحقوق.

وقد اتجه الإسلام إلى تحقيق التوازن في الحقوق والواجبات بين الفرد والجماعة؛ ليوازن بين النزعة الفردية والمصلحة الاجتماعية؛ فالإنسان ليس وحدة حياتية مستقلة عن بقية أفراد المجتمع، بل لا بُدَّ له أن يعيش ضمن دائرة المجتمع، ويتبادل المنافع والمصالح، وينشئ العلاقات، ومن تلك الروابط نشأت الحقوق والواجبات، التي نَظَّمتها الشريعة الإسلامية.

وهكذا اتسمت حضارة الإسلام من بين كل الحضارات السابقة واللاحقة بالتوازن والوسطية.

المصدر: الوفاق

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.