المنابر في الإسلام .. الأصالة والإبداع

إن تاريخ المنابر يشهد أنها بدأت بداية بسيطة جداً ومتواضعة جدا، إلا أنها لم تلبث أن انطلقت سريعاً -مع عصر المساجد الكبرى في المدن الرئيسية- حتى غدت معلماً بارزاً من معالم المسجد أينما كان، بل ومحط إعجاب الدارسين لعناصره والمتتبعين لفن العمارة الإسلامية.

إن المنابر لم تعد أماكن للحديث والخطابة فقط، بل تعددت وظيفتها الأولية إلى مدى أبعد، إنها مظهر من مظاهر السيادة والقيادة وعلامة من علامات الغنى والذوق ومقام رفيع سام لا يتعلق به إلا أهل العلم والدعوة والأهداف الواضحة في الفكر والحياة.

ما هو المنبر؟ يلاحظ أن المؤرخين اختلفوا في كلمة (منبر) هل هي دخيلة على اللغة العربية من جهة الحبشة ثم عربت واستعملها العرب؟ أم إنها عربية أصيلة مشتقة من «نبر»؟

وعلى القول الأول فإنها في الحبشة كانت أصلاً (ونبر) بمعنى كرسي أو سدة كبيرة لكرسي الملك أو رئيس الديوان. ثم حولت الواو إلى ميم فأصبحت (منبر) وهي لا تزال مستعملة في لغة الأحباش إلى يومنا هذا.

أما على القول الآخر فإن (نَبَر) معناها رفع، ومن نبر شيئاً فقد رفعه، وهكذا فالمنبر مرقاة الخاطب، سمي منبراً لارتفاعه وعلوه، وانتبر الأمير: ارتفع فوق المنبر.

أول المنابر في الإسلام

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يوم الجمعة خطيباً وقف مستنداً إلى جذع من جذوع النخل التي تحمل السقف، وهو مما يلي قبلة المسجد، ويتوجه بالكلام مقبلا على المصلين معتمداً على عصا يمسكها بيده. واستمر هكذا إلى السنة السابعة بعد الهجرة.

وقد اتفقت كلمة رجال السيرة على أن المنبر الأول المصنوع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان من خشب، وأنه كان مؤلفاً من درجتين فوقهما ثالثة للقعود.

روى البخاري عن جابر بن عبد الله عنه أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاماً نجاراً؟ قال: إن شئت. فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر الذي صنع له. قال ابن بشكوال: اسم هذا الغلام أميناً.

ولا تعارض بين هذا الحديث وأحاديث أخرى أشارت إلى آخرين عملوا المنبر، فلعل المنبر الأول لم يستقم طويلاً فقد أشير في بعض الروايات إلى أن المنبر صنع سنة ثماني للهجرة على يد غلام آخر، وباقتراح العباس بن عبد المطلب عم رسول الله(ص)، أو بإشارة تميم الداري عنه بعد أن رأى منابر الكنائس في الشام.

ولعل بعض المنافقين غمز في حينه من شأن المنبر الذي لم يكن معروفاً من قبل للعرب. فرد عليهم النبي(ص)كما في المعجم الكبير للطبراني- قائلاً: «إن أتخذ منبراً فقد اتخذه أبي إبراهيم، وإن اتخذ عصا فقد اتخذها أبي إبراهيم».

بل إن النبي(ص) اتخذ المنبر -بعد صنعه- أحياناً لتعليم الناس هيئة الصلاة، ففي البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم لما وضع المنبر جلس عليه أول مرة وكبر، فكبر الناس خلفه، ثم ركع وهو على المنبر، ثم رفع فنزل القهقري فسجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من صلاته. ثم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِى، وَلِتَعْلَمُوا صَلاَتِي».

فضل منبر الرسول(ص): وردت في فضل منبر رسول الله(ص) أحاديث عدة، يستفاد منها شرفه ومكانته العظيمة وحرمته العالية. ولمَ لا فهو أول منبر صنع في الإسلام، وهو مقام الدعوة إلى الحق وهداية الخلق إلى الله.

روى أبو هريرة وسهل بن سعد أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن انتهى النجار من صنعته جاء فقام عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: «منبري هذا على ترعة من ترع الجنة» رواه أحمد وهو صحيح. وقال: «قوائم منبري رواتب في الجنة» رواه النسائي وهو صحيح. وقال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي» رواه البخاري. وحذر من الحلف تحته كاذباً فقال: «لا يحلف أحد عند هذا المنبر -أو- عند منبري على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار-أو- إلا تبوأ مقعده من النار» رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد وهو صحيح..

وإذا كانت هذه الأحاديث واردة في فضل منبره صلى الله عليه وسلم فإنها تشير من باب التبعية والإلحاق -ولو على وجه أخف وأقل- إلى فضل المنابر عموماً في المساجد ومنزلتها، لاشتراكها مع المنبر الأول المعظم في الهدف والغاية والاستخدام.

أنواع المنابر

- تنقسم المنابر من حيث مادة صناعتها إلى: منابر خشبية، ومنابر حجرية.

- كما تنقسم من حيث ثباتها وحركتها إلى: منابر ثابتة، ومنابر متنقلة.

- كما تنقسم من حيث أشكالها إلى: منابر قديمة تقليدية، ومنابر حديثة.

المنابر الخشبية

الخشب هو المادة الأولى التي صنع منها المنبر لرسول الله(ص)، ثم درج الناس على ذلك، إلا أنهم مع تطور الحياة وتعقدها واهتمام الناس بالمظاهر والزخرفة، وبناؤهم المساجد الفخمة المكلفة للأموال الكثيرة، وتفننهم في كل شيء فيها، فقد برز اهتمام الصناع بمنابر الخشب، مما حدا بهم إلى اختيار أنواع خاصة من الخشب المعمر أو النفيس، كالأبنوس والجندل والجوز والزان وغير ذلك من أنوع الخشب القوي الفاخر، كما درجوا على تطعيم بعض المنابر بقطع من الفسيفساء والعود، أو القيام بحفر بعض الآيات أو الأحاديث وأسماء الولاة والسلاطين وأسماء صناع المنابر وتاريخها عليها، وتزيينها وزخرفتها بالزخارف الإسلامية المعروفة، كالنجوم المتعددة الأضلاع، أو الخطوط العربية الشهيرة، أو نحو ذلك من فنون الأرابيسك. فغدت المنابر في كثير من الأحيان قطعاً فنية نفيسة رائعة تدل على الملك الواسع الاهتمام الشديد والصنعة الفائقة. إن المنبر الخشبي بحق سيد المنابر.

المنابر الحجرية

وهي منابر بدأت بالظهور بشكل عام في عهد المماليك ثم في أيام العثمانيين، ولئن كان الحجر أقسى من الخشب إلا أن يد المعمار المسلم لم تعجز عن تطويعه لمبدأ الاهتمام بالمنابر وزخرفتها وتزيينها والكتابة عليها، بل أبدعت في ذلك إبداعات فائقة لم تسبق إليها، حتى غدا الحجر ناطقاً بقدرة بانيه على التعبير عن أعلى درجات المشاعر والتعظيم لمقام منابر الجمعة.

 

بقلم: عبد الله سالم نجيب

الكلمات الرئيسية: 

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.