رحلة الشهادة

الحادثة وجدت في ظرف زمني معيَّن، ذلك الظرف يرتبط بخلفيات معيّنة، عندما ندرس تلك الخلفيات ندرك سبب عنف الحادثة وعظم المأساة وأبعاد المعركة.

كانت هناك خطة للقضاء على الإسلام ولتشويه الإسلام. هذه الخطة انكشفت في ساعة من الزمن على لسان يزيد بن معاوية» وهو جالس منتصر ومغرور في قصره وأمامه رأس الحسين (ع)، انكشفت من خلال شعر استشهد به فقال وهو يمس ثنايا ابن بنت رسول الله بخيزرانته:

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل .

من يقول هذه الكلمة؟ يزيد. يسمي نفسه أمير المؤمنين، ويجلس على منبر الرسول ويحكم الأمة باسم الإسلام. فهو من الداخل يتحدى الإسلام، ويعتبر أن كل ما حصل من تضحيات ومن مجاهدات ومن مصائب، كلها وسائل للحكم وليست رسالة لتحرير الإنسان. هذه الخطة التي بدأ بتنفيذها معاوية ثم مكّن ابنه يزيد من رقاب المسلمين وجعله خليفة وفرض على الأمة البيعة. عند ذلك يتبين لنا أن الأمر بلغ منتهى خطورته. فـيزيد الذي يتحدث عن الإسلام فيعتبره لعبة هاشمية للتحكم في رقاب الناس لا وحي ولا رسالة، يصبح حاكم المسلمين، والأمة ساكتة وهادئة خائفة وطامعة لا حول لها ولا طول، الأحرار مشردون والناس ساكتون.

يزيد يتصرف كما يشاء ويهتك حرمات الناس ويستهتر بقيم الناس؛ في هذا الجو، وأمام سكوت الأمة على المظالم تتفرج كل يوم على ظلم أو على قتل، وترى في كل يوم أمام أعينها محنة ومصيبة وتجاوزاً؛ أمام هذا الواقع، أمام الضمائر الخائفة أو النائمة، كان لا بد من تضحية كبرى توقظ الضمائر وتهزّ المشاعر.. يأتي يزيد فيصبح أميراً للمؤمنين وخليفة على المسلمين، ويطلب من الحسين البيعة. ماذا يعمل الحسين أمام هذا الاقتراح؟ هل يبايع فيضع صيغة الشرعية على تصرفات يزيد؟

وعند ذلك، أين مسؤولية الحسين؟ أما قال رسول الله يوم أن قال في عودته من حجة الوداع: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»؟

وبهذه الكلمة، ما جعل النبي (ص) أبناءه حكاماً بل جعلهم حفظة للإسلام، وكل واحد منهم حافظاً للقرآن والشرع، وبذلك حمّلهم أمانة كبرى لا يمكنهم أن يتخلوا عنها. يزيد يريد القضاء على الإسلام واحداً من أحكامه تلو الآخريقول يزيد عندما برز رأس الحسين (ع) ورؤوس إخوته وأهل بيته شعراً والشعر له:

هذه الحادثة الخالدة التي كانت منارة عبر الأجيال غير مخصصة بأيام الحسين» (ع). فالحادثة في أبعادها تتجاوز محنة عاطفية ومأساة بشرية، بل إنها نموذج صالح للاقتداء في كل زمان ومكان. إن السابقة بأسبابها وتفاصيلها ونتائجها تعلم الأجيال، طرق النجاة وطريق الخلاص. أمتنا كانت ولم تزل، وكل أمة أيضاً، تحتاج إلى مثل هذا الدرس وأخذ هذه العبر.

لما بدت تـلك الرؤوس وأشرقت تلك الشموس على ربى جيرونِ

نعق الغراب فقلت صحْ أو لا تصحْ إنِّي أخذت مـن النبيّ ديونـي

أمام هذا المنطق علينا أن نعي أبعاد المعركة، الحسين خرج لا حباً بالخروج، وقُتِل وحارب لا حباً بالحرب والقتل، إنما صيانة للإسلام. هذا الرجل الذي يريد أن يأخذ من النبيّ ديونه.

هذا الرجل لا يريد بقاء الإسلام. تسلل داخل الإسلام ووصل إلى كرسي الخلافة ويريد القضاء على الإسلام والأمة ساكتة هادئة، مسايرة خائفة طامعة. ماذا يعمل الحسين؟ بطبيعة الحال، مسؤوليته الأساسية تتحرك. إنه لحمة من رسول الله، ابن بنت رسول الله، لا يمكنه أبداً أن يتخلى عن مسؤوليته، فعليه أن يقضي على أهداف يزيد، ويقلع مؤامرة يزيد، ومن وراء يزيد. هل يمكنه؟ والحسين فرد ومعه قلّة من الأفراد، هل يمكنه أن يتغلب على يزيد؟ بحسب المنطق الطبيعي المادي، لا! فماذا يعمل؟

حاول الحسين أن يجنّد كافة طاقاته فوضع في الميزان وجوده ولسانه وفكره وأهل بيته رجالاً ونساءً، وكل ما يملك، وضعهم في كفة الميزان وكوّن بذلك طاقة كبرى. فجّرت هذه الطاقات بني أمية وقصورهم وأمراءهم وحكامهم ووسائل إعلامهم وخطباءهم وكل ما يملكون. التكافؤ بحسب المنطق المادي غير موجود. الحسين مع سبعين شخصاً، خصومه ثلاثون ألفاً ووراء الثلاثين ألفاً عشرات الألوف من الجيش والعسكر. وسائل الإعلام ضلّلت الجماهير. العالم الإسلامي اعتبر أن الحسين خارجي. القاضي كتب في الحكم: «قد خرج عن حده، فقُتل بسيف جده». المدن احتفلت بقتل الحسين.

ولذلك قام الحسين بالمحاسبة، وجد أن هذه الكفاءات في المنطق المادي لا يمكن أن تؤدي لانتصار الحسين أو هدف الحسين. عند ذلك عبَّر بما قاله عن لسان رسول الله أنه قال له: «إن الله شاء أن يراك قتيلاً»، وقال عن لسانه أيضاً: «إن الله شاء أن يراهن سبايا».

فإذاً، الحسين لا يوفّر شيئاً. يأخذ نفسه، روحه، لسانه، فكره، دمه، قلبه، ويضع إلى جانب نفسه طفله الصغير وابنه الكبير وإخوانه جميعاً وأصحابه جميعاً، ويكتب إلى كل أولاد أبي طالب وأرحامه جميعاً في المدينة فيقول لهم: «ألا ومن خرج منكم معي يُقتل، ومن لم يخرج لم يبلغ النصر».

لا تفكروا يا أرحامي! يا أهل بيتي أنكم إذا تخليتم عني ستنالون النصر وستكسبون المجد وستعيشون بارتياح وعزّ، فحياتكم بعدي ذلّ على ذلّ، وخزي على خزي، وعار على عار. الحسين يرسم أمام أهله ذلك كله حتى يشجعهم على الخروج معه، دون أن يغشهم ودون أن يقول لهم أنكم إذا خرجتم معي ستنتصرون. لا! النصر معنا ولكن نصرنا بالموت والشهادة. وبذلك أثبت الحسين (ع) أنه يريد أن يجند أكبر كمية من الطاقة البشرية لكي ينتصر في هذه المعركة غير المتكافئة. وأعلن بشعار واضح يوم خروجه من المدينة: «فوالله إني ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً إنما أريد الإصلاح في أمة جدي ما استطعت، أريد أن آمر بالمعروف وأن أنهى عن المنكر». وفي هذا السبيل وضعتُ ضمانة واحدة هي حياتي. فإذاً، الحسين في المدينة عُرضت البيعة عليه، رفض. ثم عرف أنهم لا يسمحون له بالابتعاد عن البيعة فيقتلونه، لا يريد أن يقتل مغدوراً، خرج من المدينة وأعلن بشعار واضح أنه يريد الإصلاح، وانتقل إلى مكة وهناك التقى مع جماهير المسلمين فأوضح لهم الأمر وبيّن لهم الحقيقة. وكان يعرف أن حملة التشكيك والتضليل والأباطيل والشبهات تملأ العالم الإسلامي فسوف يتهم الحسين بكل شيء. وانتظر إلى يوم التروية ـ يوم الثامن من ذي الحجة ـ عندما يكتمل العقد ويصل كل حاج إلى مكة من كل فج عميق. اجتمع الآلاف وعشرات الألوف ومئات الألوف في مكة، واستغربوا عندما وجدوا الحسين وحده مع قلة من أصحابه وكثرة من أطفاله ونسائه يخرجون بعكس الطريق، يتركون الكعبة يوم التروية دون أن يكملوا حجهم، فيحوّلون إحرام الحج إلى العمرة المفردة ثم يخرجون، استغربوا ذلك فسألوه: وما هو السبب يا ابن رسول الله؟

قال: إني لا أبايع، ولكن يزيد قد أرسل جماعة حملوا السيوف تحت ملابسهم وتحت إحرامهم، يريدون أن يريقوا دمي وأنا لا أريد أن تهتك المشاعر.

خرج وألقى كلمته المشهورة: «خُط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة»، أنا غير خائف من الموت، فالموت قلادة وزينة وفي نفس الوقت محيط بالإنسان والموت الكريم زينة الإنسان كما أن الحياة اللئيمة الرذيلة غير مناسبة للإنسان: «وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف». ثم يشرح: «واختير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشاً جوفاً، وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خط بالقلم. رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ونوفَّى أجره أجر الصابرين. ألا ومن كان منكم باذلاً مهجته متشوقاً إلى لقاء الله فليرحل معنا فإني راحل غداً إن شاء الله».

بهذه الخطبة يكشف الأبعاد ويبين الأهداف، فهو غير خائف من الموت، وهو متشوق إلى لقاء آبائه، وهو لا يجوز له أن يتخلى عن مسؤولياته، وهو سالك هذا السبيل ويعلم أن عسلان الفلوات، ذئاب الصحراء، ستأكله. لماذا؟  الغاية من قتلي ليست إلا ملء البطون وملء الجيوب.

انتقل من مرحلة إلى مرحلة وفي كل مرحلة يرفع الشعار، ويكشف الحقيقة، ويوضح الأبعاد، حتى يجند أكبر قدر ممكن من الرأي العام ويوضح الحقيقة لأكبر عدد ممكن من الأمة جميعاً. يريد أن يهزهم، يريد أن يكشف لهم النتائج، يريد أن يقول للساكتين والمسايرين إلى متى أنتم جالسون؟ يزيد هذا، هذه صورته. لا تنظروا إلى أنه يحكم باسم أمير المؤمنين وخليفة المسلمين. لا تنظروا إلى شِعْره وليونته بل انظروا إلى هذه الواقعة التي هو الحسين بطلها.

فدخل إلى كربلاء وحاول أن يوضح لأصحابه من خلال الخطبة المعروفة: «ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن إلى لقاء الله محقاً.

هذه الكلمة تكشف هدف الحسين وطريقة الحسين وألم الحسين. إنه متألم من عدم وصول الحق إلى صاحبه ومن طغيان الباطل على جميع الأجواء. هكذا خرج، وهكذا قُتِل، وهكذا استشهد، وهكذا كشف للعالم أنهم يقتلون الرجال، ويقتلون الأطفال، ويسحقون الأجسام، ويسبون النساء، ويحرقون الخيام، ويمنعون الماء عن الضحايا والشهداء أيضاً، ثم يدفنون أمواتهم ويتركون الأجساد الطاهرة تحت الشمس معرضة لكل خطر. . لو لم يكن الحسين لما انكشف يزيد في ذلك الوقت. فكان وجهه مغطىً بالكثير الكثير من الوسائل ومن الوجوه ومن الأساليب. وهو يتمكن من خلال هذه الأقنعة أن يقضي على الإسلام حكماً بعد حكم، وأمراً بعد أمر، وموقفاً بعد موقف. ولكن الحسين كشف كل ذلك ووضع يزيد عارياً وبني أمية عراة أمام الأمة، ثم قال لهم: أيها المسلمون احكموا، هذا هو حاكمكم ، انظروا إلى وجهه كيف ترونه؟ هل تقبلون أن تخضعوا له؟ وأن تبايعوه؟ أم لا؟

الحضور، الخصوم، العسكر، رأوا بأم أعينهم أن ليل الحسين صلاة وابتهال ودعاء وتسبيح، وأن ليل خصومه خمر وفجور وتآمر وفسق؛ وجدوا أن حرب الحسين حرب شريفة مقدسة لا تخضع للفرد.

حتى صباح عاشوراء، أوصى الحسين أصحابه بما كان يوصي أصحابه به أمير المؤمنين في جميع الحروب، ومن قبلهما رسول الله معلمهم ونبيهم وسيدهم: «لا تبدأوهم قبل أن يبدأو بكم وقبل أن يبدأوكم» . فحتى في نهار عاشوراء، وعندما طُوِّق الحسين وتبين أن الموت محتوم، حتى في هذا الوقت ما بدأ بالضرب ولا أمر أن يبدأوا بالضرب. فوجد الناس الحضور، المأجورون، المتفرجون، ومن ورائهم الأمة جميعها، وجدوا أن حرب الحسين حرب شريفة، وحرب يزيد حرب ظالمة لا تبقي ولا تذر، تقتل الكبير والصغير، وتمنع الماء، وتسبي النساء وتحرق الخيام. وهو بعد ذلك، يأمر بسحق الأجساد ويتوقع أن رمال الصحراء المتحركة تغطي أجساد الحسين وأهل بيته فلا تبقي منهم أثراً.

هذه الواقعة بالشكل الذي مارسه الحسين أوضحت الحقيقة وكشفت الواقع ووضعت الصورة أمام الأمة. فالأمة من خلال هذه الصورة حكمت. الأمة وجدت أن السكوت لا يجوز، وأن المسايرة ذلّ، وأن الساكت عن الحق شيطان أخرس؛ وجدت الأمة كل ذلك، فبدأت تتحرك الثورة تلو الثورة، والحركة تلو الحركة، والاحتجاج تلو الاحتجاج. فبدأت الحركة بالمعسكرات من الرجال ومن النساء. وبدأت الحركة في كل مدينة مرّت القافلة عليها عندما كانوا يتساءلون ويسألون عن واقع الأمر، فكانت زينب تكشف لهم الحقيقة فيتوبون ويندبون ويلومون أنفسهم ثم يخرجون لضرب الأعداء.

بدأت الحركات، ثم بدأت ثورة التوابين ثم خرج المختار بن أبي عبيد الله الثقفي، ثم تحركت هنا فئة وهناك فئة حتى جاءت ثورة بني العباس فقضت على بني أمية. وهذه الفترة من مقتل الحسين إلى زوال بني أمية، الشعارات المرفوعة من قبل جميع الثوار وجميع المعترضين وجميع المحتجين وجميع الرافضين، كان شعار يا لثارات الحسين. فالثأر والعمل والدفع والمحرك في جميع هذه الحركات كان حسينياً.

وبعد ذلك، وإلى مدى التاريخ، هذه الثورة التي انتقلت من الصحراء، من وسط الرمال انتقلت إلى جميع العالم الإسلامي، انتقلت أيضاً من سنة إلى سنة ومن جيل إلى جيل، ومن قرن إلى قرن، حتى بقيت إلى هذا اليوم، وبقيت بين أيدينا أمانة نستفيد منها، ونتمتع بها ونستقي منها كل يوم أمراً جديداً، وتصحيحاً جديداً، وموقفاً جديداً، وحركة جديدة، وثورة جديدة، وعملاً صالحاً، وتضحية كاملة مفيدة، في سبيل دفع الظلام ومنع الظلم وإبعاد الباطل.

نحن اليوم ماذا نقول؟ في هذا المكان: مكان الإشعاع، مكان العلم، مكان العطاء، مكان التضحيات لا نريد هدماً ولا تخريباً ولا فساداً، نريد الإصلاح في أمتنا ما استطعنا،

ما هي الأهداف؟ احقاق حق المواطنين. والمطالبة بالحقوق، من صميم أهداف أبي عبد الله الحسين. نريد حق المواطنين جميعاً، نريد عمران المناطق، جميع المناطق لا الجنوب والبقاع والهرمل فحسب بل نريد عمران أي منطقة متخلفة تكون في هذا البلد. نريد لبنان متكاملاً عادلاً يسود فيه العدل ويكون كل مواطن فيه مكرّماً.

أيها الحسينيون، ليس الأمر بدعاً مني. لا تقولوا: أنت شيخ فما علاقتك بهذه المسائل. أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يقول: «فوالله ما خُلِقْتُ كالبهيمة المربوطة همها علفها وشغلها تقممها». إذا كان كل همّ الإنسان أن يعيش ويملأ بطنه ويشتغل، فهذا علي يسميه بهيمة. لا! والله! أنا أيضاً ابن علي ما خُلِقْتُ لكي أكون «كالبهيمة المربوطة همها علفها وشغلها تقممها».

 

کتاب سائرون في موکب الحسین ص121-138

 

 

المصدر: الوفاق

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.