نجيب محفوظ وفن الخروج من التخيّل إلى الواقع

لم يكن عبور فترة الشباب، وبداية الاستئناس بالتخيل الروائي، وبعوالمه الحكائية يتم بدون السفر في روايات محفوظ، وما كان للشخصية الروائية أن تُجيد الإقامة في الواقع، وتُصبح حالة اجتماعية، وتتحول إلى كائن تاريخي، تشبه البعض منا، وتتناقض مع البعض الآخر، وتتحول إلى حلم لدى الآخر، لولا شخصيات روايات نجيب محفوظ التي كانت تُتقن العبور من التخييلي إلى الواقعي، بدون سند للسارد العليم، وعلى الرغم من حديث الكتب الفكرية والسوسيولوجية عن تناقضات الإنسان والرجل العربي، وموقعه في عتبة الازدواجية، فإن شخصية عبد الجواد في ثلاثية محفوظ حققت المُعادلة الصعبة، بأن شخصت التناقض إبداعا، والازدواجية سلوكا يُساهم في تحليل شخصيته، في علاقة بذاكرة المفاهيم المتوارثة، ما جعل عبد الجواد يتنازل عن موقعه في التخييل الروائي، ويتحول إلى مفهوم وفكرة، وأحيانا إلى درس سوسيولوجي وثقافي ونفسي. كما أن المرور إلى الرواية العربية، كان يتم من خلال مسار كتابته الروائية، التي كانت تمدنا في الوقت ذاته – بنوعية التحولات الاجتماعية التي عرفها المجتمع العربي. أجيال عربية كثيرة كبرت ونمت مع روايات محفوظ، تحول اسم نجيب محفوظ إلى مرحلة انتماء، وذاكرة تاريخ، وعلبة مفاهيم، ووشم طفولة وشباب، وزمن رومانسية كانت تمنح الأفق تجربة في الإحساس أكثر من وصفة للوصول.

إنه الزمن الجميل، جملة تتكرر في زمن التكنولوجيا، لأنها تختزل المرحلة والذاكرة والوشم والزمن وتجربة الإحساس. إنها علبة أسرار مرحلة، بنجاحاتها وانكساراتها، بتناقضاتها وانسجامها، بإيجابياتها وسلبياتها، لكن الحاصل، أن أجيالا تمكنت من تحقيق وجودٍ وفق شراكة تغرف من العلبة نفسها. لهذا، عندما تلتقي تلك الأجيال، تكتشف قوة الشبه فيما بينها، تتكلم اللغة نفسها، وإن تنوعت مفرداتها، مثلما كان يحدث مع اللحن في الزمن الجميل، صوت واحد، تعزفه آلات موسيقية متعددة، غير أن كل آلة لا تتنازل عن صوتها ولحنها وإيقاعها، نستحضر نجيب محفوظ وأعماله الإبداعية في الزمن التكنولوجي، الذي وحد المجتمعات والأفراد في وسائطه، وميَزهم عن الأزمنة الأخرى، حين جعل كل شيء محتملا، وممكنا، وقابلا للتحقق، وفي الوقت ذاته مهيأ للتلاشي، غير أن حالة اجتماعية ثقافية باتت تُعين هذه المجتمعات التي ينخرط أفرادها في وسائط الزمن التكنولوجي، تتسم باللاتواصل الاجتماعي بين الأفراد، أو بالتالي، ورطت هذه الوسائط الفرد في عزلة توهم بالتواصل، ما أنتج شكلا من الغربة، لا يشبه الغربة التي حكت عنها كتابات المنفيين والمهاجرين العرب إلى بلاد الغرب، هي غربة داخل الزمن والمكان والذات. ولهذا، نلاحظ شكلا من التواصل الذي ينشط تحت اسم المواقع الاجتماعية، بدون استعمال الثقافية، يُدعم حرية الفرد وانطلاقه في التواصل، لكن خللا ما يشوب هذا التواصل، حين يُفرغه من التواصل.

وضعٌ يطرح أسئلة حول طبيعة المجتمعات اليوم، وتركيبة أفرادها، والقاسم المشترك بينها، وسؤال الانتماء إلى ذاكرة معينة، وهل تستطيع هذه المجتمعات أن تؤسس لزمن وجودها علبة أسرار شراكتها، وإلى أي حد يغمر أفراد هذه المجتمعات إحساس بمعرفة بعضهم بعضا، وهل تمكنت من إيجاد طابع يُميزها، ويدل عليها، ويعبر عن ثقافتها في الحب والعشق، في الألم والأمل، في الذاكرة والنسيان؟ عندما نستحضر نجيب محفوظ وكيف شكل أهم دعائم علبة أسرار شراكة مجتمعية وثقافية، فليس من أجل استهلاك محفوظ نموذجا، أو البحث عن بديل يشبهه، بمواصفات الزمن التكنولوجي، إنما استحضار نجيب محفوظ، هو استحضار لتشكل جيل/أجيال بالقراءة، لأن قراءة محفوظ كانت محطة أساسية للدخول إلى التخييل العربي، والدخول إلى عوالمه الروائية والقصصية كان انخراطا في ثقافة الحياة والمشاهدة، فنصوص نجيب محفوظ تُمكن المنخرط فيها من العيش في أزقتها وحواريها، والجلوس في عتبات بيوتها ودكاكينها، ومرافقة شخصياتها وهي تنمو مع الأحداث، والاستماع إلى كلام المتكلمين والمتلفظين، كما تمتلك القدرة على جعل المنخرط يُشاهد وهو يقرأ، وتتحرك عيناه وهو يتابع نمو الحكاية، وعلى الرغم من كون الهيمنة كانت للسارد العليم العارف المُدبر لنظام الحكاية، فإن إعادة قراءة نجيب محفوظ تجعلنا نقرأ ذلك السارد بشكل مختلف عما ألفناه في تصوراتنا النقدية، لأن هذا النوع من السارد الذي تُجبرنا معرفته الكلية والموسوعية، التي تتفوق على معرفة الشخصيات حتى في أكثر المواضيع حميمية، على المكوث صامتين أمام سلطته في تدبير الحكاية، كما يشاء ويحلو له، قد وجدنا معرفته الكلية تلك، قد تعذر عليها التحكم الكلي في حركة القراءة التي كانت بفعل عنصري الحياة والمُشاهدة تتحقق ثقافة، وذاكرة وتاريخا.

زهور كرام

الوفاق

الكلمات الرئيسية: 

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.