اختلاف الكتابة وكتابة الاختلاف

 

 

هناك نوعان من الكتابات في الأدبيات العربية، أولها: كتابات تقليدية سائدة يمكن أن توصف بأنها كتابات اتباعية جامدة بعيدة تماماً عن الجدة، تميل إلى التكرر، وتأنس إلى المألوف المعتاد، معادية في بنيتها الأساسية لكل أشكال التحديث والحداثة، وثانيهما: كتابات حداثية يمكن أن توصف بأنها كتابات إبداعية خلاقة تقترن تماماً بالجدة، لا تنزع إلى التكرار، ولا تأنس إلى المألوف المعتاد، معادية في بنيتها الأساسية لكل أشكال التقليد والجمود. إن هذين النوعين يشكلان، فيما أظن، اختلافاً نوعياً في عملية الكتابة.

هذا الاختلاف النوعي بين كتابات التقليد وكتابات الحداثة يمكن أن يرى بوضوح عندما نتأمل ما حدث في بداية الربع الثاني من القرن العشرين، وذلك عند صدور كتاب «في الشعر الجاهلي» للدكتور طه حسين؛ لقد قامت الدنيا ولم تقعد، وانتهت الضجة بسحب الكتاب من التداول، وصدرت كتابات مناهضة لهذا الكتاب؛ هذه الكتابات طعنت في علمية الكتاب وجدته وحداثة تفكيره، وربما انتهت هذه الكتابات إلى أن هذا الكتاب تقليد لأفكار وردت عند المستشرقين أو توسع لأفكار وردت في كتب عربية قديمة.

إن كتاب «في الشعر الجاهلي» هو صدمة للوعي الأدبي والنقدي في ذلك الزمان، الذي كان ينظر إلى النص الجاهلي نظرة لا تخلو من تقديس وتعظيم، وجاء الكتاب ليضع هذا النص موضع التساؤل والفحص النقدي، معتمداً على المعرفة الجديدة وعلى طرق إنتاجها، كما أنه يؤكد أن الخروج من دوائر المعرفة القديمة وطرق إنتاجها هو السعي فعلياً وراء المعرفة التي لم تكتمل ولن تكتمل، وهو أيضاً الاعتراف بأن المعرفة هي حال من النظر المستمر الذي يضيف فيه اللاحق إلى السابق الإضافة الخلاقة غير المسبوقة.

أما الكتابات المناهضة لهذا الكتاب، فإنها تعتمد على المعرفة القديمة، وعلى طرق إنتاجها، وتعد الخروج على هذه المعرفة خروجاً من حاضر المعرفة ذاتها، وترى أن المعرفة المعاصرة هي معرفة زائفة لم تأت بجديد ولكنها تكرر في رطان معاصر المعرفة القديمة.

وإذا تجاوزنا عن المثال الذي طرحناه أعلاه، فإن هذين النوعين من الكتابات يسودان في الأدبيات العربية تقريباً حتى وقتنا الحاضر، وتثير تلك الكتابات مجموعة من المسائل المترابطة. فكتابات التقليد يرضى بها أو ترضي جمهورا عريضا من المثقفين التقليديين، وتضمر الراحة والسلامة، ولا تطمح إلى عمليات التغيير، ولا تؤمن بحق الاختلاف وقيمته.

هذه الكتابات تؤكد أن الإتباع الذي هو قرين التقليد والتكرار هو الحل الأمثل لمجاوزة الحاضر المتخلف وصولاً إلى مستقبل يشبه الماضي المجيد. ولا تعترف بالمتغيرات العالمية الجديدة، فهي تقبع في دائرة ضيقة منغلقة على نفسها، ولا تقبل الانفتاح على الآخر المختلف ثقافياً.

هذا النوع من الكتابات يحتفي به حراس الأكاديمية التقليدية العتيقة، وبعض المؤرخين، ودارسو الأدب التقليديين. وتظهر هذه الكتابات في صورة مؤلفات عقيمة تكشف عن العصور التاريخية المختلفة، أو تحاول تحقيب التاريخ الأدبي ودراسة ظاهرة أو شخصية معينة، كما أن هذه الكتابات تتبدى بوضوح في صورة محاضرات تلقينية داخل أسوار الجامعة.

هذه الكتابات فشلت في أن تشيع مناخ من الحيوية والخصوبة في الحياة الثقافية، فقد هربت إلى الماضي خوفاً من مواجهة الحاضر ومشكلاته، كما أنها عجزت عن أن تلعب دوراً ثقافياً فعالاً في المجتمع والعالم الذي تكتب فيه وتكتب من أجله.

أما كتابات الحداثة فإنها لا ترضي الجمهور العريض من المثقفين التقليديين، ويقبلها فئة قلقة متمردة من المثقفين، لا تنتهي بالأشياء إلى حال اليقين المطلق، وتطمح دائماً إلى عمليات التغيير، وتؤمن وتشدد على حق الاختلاف وقيمته، وتؤكد أن الابتكار غير المسبوق هو الحل الأمثل لتجاوز الحاضر المتخلف وصولاً إلى المستقبل الذي لا يشبه الماضي ولا الحاضر. وتندفع إلى زعزعة المفاهيم السائدة والثابتة والمستقرة، وتناهض المعايير الكابتة والقامعة للحرية الفكرية، التي تزعم الكتابة التقليدية بأنها مفاهيم ومعايير صحيحة؛ تقاوم بشدة سلطة الاتباع ومخايلاته، وتضع كل شيء موضع الفحص، فهي تتأبى على التصديق السريع، وترغب دائماً في التجريب ومغامرة التساؤل واكتشاف المجهول، وفوق كل ذلك تحاول أن تصدم الوعي بالتفكير فيما لم يتم التفكير فيه من قبل، والكتابة عما لم تتم فيه الكتابة من قبل، وإنطاق المسكوت عنه من هموم العوائق والمشكلات السياسية والاجتماعية والفكرية. مهمتها الاتساع بدوائر المعرفة المنغلقة على نفسها إلى دائرة للمعرفة تنفتح فتشتمل على دوائر متنوعة.

إنها كتابات تثير الاختلاف وتحرض عليه، وترفض المتشابه والمماثل، تكره التكرر، وتقاوم المألوف والمعتاد، وتتمرد على الثابت والراسخ، تحاول دائماً تطوير أدوات المعرفة، وتميل إلى الانتقاد الذاتي، وتضع سؤال الحقيقة دائماً في موضع الإرجاء الدائم، أي أنه سؤال مفتوح، وإجابته تظل معلقة تقبل الاجتهاد والتأويل الدائمين. فهل يمكن أن تتفق معي بأنها كتابة اختلاف؟!

بقلم: د. مصطفى بيومي عبدالسلام

المصدر : الوفاق 

 

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.