نظرة لخصائص المنهج التربوي عند الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

نظرة لخصائص المنهج التربوي عند الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

لشيخ خالد النعماني

تمهيد

تعتبر التربية والتزكية من اهم الاهداف للرسالات الالهية قاطبة لانها تتعالى بالانسان الى مراتب الكمال النهائي الذي اراده الله سبحانه للانسان ولهذا نجد ان القرآن الكريم حينما تحدث عن هدف بعثة النبي الخاتم( ص) اعطى للتزكية والتربية المكانة الاولى ومن ثم اردف بالتعليم قال تعالى: (هو الذی بعث فی‏الامیین رسولا منهم یتلوا علیهم آیاته و یزکیهم ویعلمهم الکتاب والحکمة و ان کانوا من قبل لفی ضلال مبین)[1] ، بل يمكن القول ان القرآن الكريم كتاب فريد في منهجه التربوي وكذلك سيرة الرسول الاعظم والائمة خلفائه من اهل بيته (عليهم السلام). ولا تخفى الحاجة الماسة في مجتمعنا اليوم إلى منهج تربوي ثابت في اُصوله واضح في مقوماته وموازينه، بل قد تصل هذه الحاجة لحد الضرورة، لان التربية هي التي تحدد القيم الصالحة والسامية في الواقع الانساني، وتنشر قيم الفضيلة والرقي والتكامل في المجتمع، وتؤسس للمدينة الفاضلة التي كان وما زال يتمناها كل انسان ذو لب وايمان وعدل. وقد بذل المصلحون على مر التاريخ جهوداً مضنية لتوضيح منهج تربوي يستندون إليه في انطلاقاتهم نحو تربية الانسان والمجتمع على اُسس سليمة وصالحة، وفي بيئتنا الإسلامية كان النبي( ص) واهل بيته القدوة الصالحة والمربين الذين أناروا الطريق للمسلمين بكلماتهم وسلوكهم العملي الذي يعتمد على الأسس والمفاهيم والقيم الإسلامية السمحاء. وفي هذه المقالة المختصرة ساحاول ان أسلط الضوء على بعض جوانب القيم التربوية لوصي الرسول الامام امير المؤمنين (ع) من خلال كلماته وسلوكه العملي وهي كثيرة جدا ولكني ساقتصر في الاشارة الى بعضها آملا ان تكون نبراسا نقتدي بها في حياتنا وسلوكياتنا وواقعنا الحياتي اليومي لننال بها سعادة الدنيا والاخرة انه سميع مجيب. اولا: تعريف التربية 1. التربية لغة ذكر علماء اللغة معان لمفهوم التربية منها ما ذكره ان منظور في لسان العرب حيث قال:" رَبا الشئَ يَربو رَبْواً ورِباءً بمعنى: زاد ونما، وأربَيْته: بمعنى نَمَّيْته، وفي التنزيل العزيز (ويُربي الصدقات ) ومنه اخذ الربا الحرام."[2] ، وذهب بعضهم الى ان معنى التربية لغة مأخوذة من"ربى ولده، والصبي يربه، رباه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك." [3] واشار اخرون الى المعنى اللغوي بالقول" رَبَّ، يُرَبِّ الوَلَدَ، بمعنى تعهده وربّاهُ وادّبَهُ."[4] ويمكن تلخيص المعنى اللغوي لكلمة التربية الى اصول ثلاث وهي:- الف. ربا ، يربو : بمعنى زاد ونما. ب. ربي ، يربى – بوزن خفي يخفى ، بمعنى نشأ وترعرع. ج. رب، يرب: بمعنى اصلحه وتولى امره وساسه وقام عليه ورعاه. وبذلك تكون معاني التربية في اللغة: الزيادة والنمو والنشوء والترعرع والإصلاح والرعاية والسياسة وتولي الامر. 2. التربية اصطلاحا هناك تعريفات كثيرة للتربية من حيث الاصطلاح وهي متشابهة تقريبا في أكثرها ومستفادة من المعنى اللغوي، فمنهم من قال ان التربية هي" التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال " [5]، وفي تشبيه لطيف ذكر الغزالي معنى التربية فيقول" التربية تشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه" [6] وما يهمنا هنا في تعريف التربية هو ما أراده الامام امير المؤمنين في كلماته والتي تفسر حقيقة مفهوم التربية من وجهة نظر اسلامية دينية. فالامام يرى أن الإنسان هو غاية الوجود والهدف من خلقته هو الوصول الى الكمال النهائي الذي اراده الله تعالى له، وجعله خليفته في أرضه، ولكي يصل الى كماله يجب عليه الالتزام في أقواله وأفعاله ومقاصده، وفق أحكام الله وهداه كما قال الله تعالى لابينا آدم عند هبوطه من الجنة" قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" [7] إن ضعف الإنسان أمام الإغراءات المادية الدنيوية يتحتم عليه السلوك في طريق التربية والتعليم وفق الصراط المستقيم الذي رسمه الله تعالى ولكي يقوى على مقاومة الضلالة والفساد، ورفع الموانع التي تمنعه من وصوله الى الكمال، وهذه التربية، لا تستند فقط إلى مبادئ نظرية لا صلة بها بالواقع، بل تتخذ منها طريقاً ومنهجاً وسلوكا عمليا تترك آثارها على نفس الانسان وكذلك تتجلى ثمراتها في المجتمع. وكثيرة هي الخطب والكلمات التي تضمنها كلام امير المؤمنين في نهج البلاغة وهي تدعو وتحث على العلم والعمل ولهذا قال الإمام امير المؤمنين (ع) (العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل) [8] ، فليس المهم من وجهة نظر القرآن الكريم وكلمات الإمام (ع) كثرة العلوم النظرية، لأنها لا تغني عن السلوك الحسن والسيرة الخيرة، فالمعيار هو الاحسن لا الاكثر، فالتربية التي تعتمد الكمية في أساليبها لا تجدي نفعا ما دامت لا تستند إلى الكيفية والنوعية، وهذه النوعية يجب ان تقترن بالعلم، التغيير والنمو في شخصية الفرد والمجتمع كما يقول (ع):(لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا وإذا تيقنتم فأقدموا) [9] . ثانيا: بعض خصائص المنهج التربوي في كلمات امير المؤمنين: (عليه السلام). هناك خصائص كثيرة يمتاز بها المنهج التربوي للإمام (ع) تعتبر الأساس والمنهج في تربية الإنسان المؤمن نشير اليها هنا باختصار: 1ـ تقوية قوى الخير في نفس الإنسان يمكن القول ان الإنسان مجمع الأضداد، فهو يجمع القوة والضعف والعقل والشهوة، فهو القوي بعقله وفعاليته ولكنه هو الضعيف في نفس الوقت الذي (تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة) [10] ، ففي اعماق نفسه تتصارع قوى الخير والشر فهو يجمع الى جانب العواطف والأهواء والغرائز العقل والفطرة، وحياته تعتورها حالات متضادة نتيجة للصراع بين قواه العقلية والعاطفية، فيمكن ان يرتفع إلى كماله اللائق به اذا ما جعل من عقله القائد والمدير والمدبر لسلوكه واعماله، ويمكن ان ينحدر إلى مستوى البهيمية اذا ما جعل من غرائزه هي التي تتحكم به، وتسليطاً للضوء على طبيعة المعركة مع النفس وتحديد اطرافها ومواقعهم يقول الامام علي (عليه السلام):« العقل صاحب جيش الرحمان، والهوى قائد جيش الشيطان، والنفس متجاذبة بينهما فايهما غلب كانت في حيزه» [11] . والاسلام اكد مرارا على اهمية التوازن بينهما ليكون الانسان الكامل الذي جعله الله تعالى خليفته في ارضه والتربية هنا هي ضرورة تقوية قوة العقل والتوازن بينهما وبين العواطف والغرائز واعطاء كل منهما حقه في الكمال وقد شار امير المؤمنين الى هذه الميزة التربوية فقال (ع): (لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه، وهو القلب، وذلك أن له مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ وإن غاله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمر استلبته الغرّة، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قعدت به الضعة، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد) [12] . فالانسان يجمع إلى جانب قوى الخير قوى أخرى تجنح به نحو الشر، والنفس الانسانية لها خصوصية فريدة وهي قدرتها على التزكية والفالح وتحولها الى عالم الملائكة او افضل ويمكن ان تنحدر الى مقام ارذل من الانعام والبهائم، ويمكن تشبيه حالة الانسان هذه بلوحة خالية وقد اعطانا الله تعالى كل ادوات الرسم وترك لنا الحرية والاختيار في رسم اي صورة نريد ان نعيش بها حياتنا الابدية الخالدة اما في الجنة كاملين متنعمين او في جهنم معذبين مخلدين والمفلح هو الذي يستطيع ان يزكي نفسه كما قال تعالى: (قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها) [13] . فالإنسان لا يميل بطبعه إلى الخير أو إلى الشر، لأنه قادر على فعل الخير كقدرته على فعل الشر، ونوع التربية التي تتعهده بها البيئة التي يعيش فيها، هو الذي يجنح به نحو الخير أو الشر. ولقد أعطى (عليه السلام) القدوة التي يجب أن تحتذى لحسم صراع النفس مع شهواتها لصالح الإنسان الفاضل وكانت وصاياه ومواعظه تصب في هذا الإطار فيقول في وصية إلى شريح بن هانئ: (واعلم أنك لم تردع نفسك عن كثير ممّا تحب مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر فكن لنفسك مانعاً رادعاً، ولنزواتك عند الحفيظة واقماً قامعاً) [14] . 2ـ مقارنة العلم للعمل هذه ميزة وخصيصة مهمة في المنهج التربوي الالهي، وقد أشار الله تعالى اليه في كتابه المنزل على قلب نبيه، فقد قرن الايمان والعلم بالعمل، وقلما نجد اية في القرأن تشير الى فلاح الذين امنوا والا وقرنها الله تعالى بالعمل (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وهذا المنهج التربوي العملي اشار اليه امير المؤمنين كأحد الخصائص بالغة الاهمية في التربية، فالعلم والمعرفة القائمة على التصورات فقط لا قيمة لها، بل احيانا تكون وبالا على صاحبها ولا يترتب عليها أدنى منفعة، بل قد تؤدي الى مهلكة للانسان تصيبه بالاوصاف الرذيلة كالكبر والغرور والترفع عن الاخرين وغيرها من الصفات الرذيلة التي نهى عنها الاسلام. هذه الحقيقة اكدها الإمام (ع) كثيرا فيقول: (خير القول ما نفع، واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع)[15] وقال كذلك (ع):(أوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح والأركان)[16] . 3ـ التفكر والتدبر التفكير ضرورة تربوية هامة في المنهج التربوي العلوي، فهو مقدمة ومحرك للعمل الصالح، فالتفكير هو إحدى المكونات الرئيسية للنظام المعرفي والتربوي للانسان، وأهميته تكمن في إعطائه القدرة على تنمية الفكر الإنساني وانطلاقه وتحريره من الجهل والجمود والتقليد، والتدبر في عواقب الامور ونتائجها. وقد أشاد الإمام امير المؤمنين بالتفكر الصحيح ودعا إلى تنميته ، لأن الفكر جلاء للعقول، كما أنه يفيد الهداية والرشد واليقظة والاستبصار، ويعصم عن الضلال والشك، وكثيرة هي الكلمات والحكم التي صدرت عنه بهذا الخصوص حيث يقول: (الفكر يهدي) و(الفكر عبادة)، و(الفكر رشد) و(الفكر ينير القلب) [17] . والإمام (ع) يجد في التفكير انارة للقلب ومن خلالها تكون لدى الانسان القدرة على كشف الحقائق وتخليص العقل من الأوهام والأساطير، كما وأنه يرى فيه الهداية والرشد والرأي السديد ليس ذلك فحسب، بل أن العلم الحاصل عن التفكير هو من أشرف العلوم وأكثرها ثباتاً ودقة، لذلك كان التفكير أحد العوامل الرئيسية في عملية التربية والتعليم. وقد قرن (ع) بين التفكير والرشد والهداية وبين العلم الرفيع الذي بني على أساس التفكير وجعل افضل العلم هو المستند على الفكر والتأمل قال (ع): (لا علم كالتفكير) [18] . وأشار الإمام علي (ع) الى اثار التفكر والتدبر وانه يفضي الى ان يزدهر مصباح الايمان والهدايى في قلب الانسان المؤمن المتفكر، من ذلك قوله: (عباد الله، إن من أحب عباد الله إليه، عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعد القرى ليومه النازل به فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد، نظر فأبصر، وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده، فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً جدداً، قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى عن الهموم إلا هماً واحداً انفرد به. فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى، وقد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبل بأمتنها. فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور، من إصدار كل وارد عليه، وتصيير كل فرع إلى أصله، مصباح ظلمات، كشاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص لله فاستخلصه، فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه. قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه. يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلا أمها، ولا مضنة إلا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده وإمامه، يحل حيث حل ثقله، وينزل حيث كان منزله) [19] . 4. تقوى الله إن كلمة (التقوى) من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً، فليس هناك كتاب يركّز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتنى به أكثر من التقوى. والتقوى من الوقاية، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب ولا سيما عن الحدود المحرمة التي امرنا الله تعالى بعدم تجاوزها،ولا شك أن الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل. إن مفهوم التقوى في المنهج التربوي عند الامام امير المؤمنين هو بمعنى قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب، فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدمة للحصول على هذه الحالة الروحية، وهو - من ناحية أخرى - من لوازم حالة التقوى ونتائجها. إن هذه الحالة تهب للروح قوة ونشاطاً، وتصونه من الانحراف والسقوط والانزلاق نحو الهاوية، وكلما حصلت الروح الإنسانية على ملكة التقوى) كلما حفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع. ويصف الامام (ع) التقوى بأنها قوة معنوية روحية، تحصل على أثر التمرين والممارسة، ولها آثار ونتائج، منها تيسير الحذر من الذنوب، حيث يقول (ع): (ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات.. ألا وإن الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار..ألا وإن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة..) [20] . فقد وصف الإمام (ع) التقوى في خطبته هذه بأنها حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها، وأن من لوازم اتباع الهوى وترك التقوى هو ضعف النفس أمام هواها، وأن فاقد التقوى حينئذ يكون انسان ضعيف لا إرادة له في ادارة نفسه وهواه، بل الشهوات والهوى هو الذي يسيره حيث يشاء، وأن من لوازم التقوى قوة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة، يقول الامام (ع): (إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم) [21] ، وفي هذه الكلمة يصرح الإمام (ع) بأن التقوى شيء يكون الحذر من الحرام والخوف من الله من لوازمه وآثاره، وعلى هذا، فليست التقوى هي نفس الحذر، ولا نفس الخوف من الله، بل قوة مقدسة روحية توحي بهذه الأمور وتستتبعها. فالتقوى من وجهة نظر الامام قوة مقدسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقدام والإحجام، إقدام على القيم المعنوية، وإحجام عن الدنايا المادية، إن التقوى هي حالة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلّط بها على نفسه ويمتلكها، يقول الإمام (ع): (اعلموا عباد الله: إن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه. ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا) [22] . ويصرّح في بعض كلماته أن التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرر بل هي منبع الحريات الواقعية وأساسها ومنشؤها، حيث قال الإمام (ع): (فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة) [23] . ومن الواضح أن التقوى تهب للإنسان حرية معنوية، تحرره من أسر عبودية الهوى، وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة، ولا يخضع التقي لأعباء هذه العبودية. ولقد تناول الإمام (ع) في كلماته ومواعظه آثار التقوى كثيراً، ومن أهم آثار التقوى الذي أشار إليها أثران مهمان، أحدهما البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة، والآخر القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد. أن التقوى التي يؤكد عليها الامام هي وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن، وتوقظ من نوم الغفلة، قال الإمام علي (ع) حول اثار التقوى: (أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم وأشعروها قلوبكم وارحضوا بها ذنوبكم.... ألا فصونوها وتصوّنوا بها) [24] . ولاهميتها البالغة في التربية الانسانية الايمانية نجده (ع) يشدد على التقوى في الكثير من خطبه وكلماته، بل يمكن القول انه ما ترك فرصة الا واكد على هذه الصفة والخصلة المهمة والمؤثرة في المنهج التربوي، فالتقوى هي التي تهب النفس القوة والنشاط، وتصونها عن الانحراف والشطط، وتدفع بها إلى ملكوت الله حيث السعادة الأبدية، والواضح من من كلماته (ع) ان التقوى لا تعني ترك المجتمع واعتزاله، بل هي توحي إلى الإنسان بأن يتقي الله في دنياه، ويعمل لدنياه كما لآخرته، ويعيش حياته بكل بساطة وقناعة، ويؤدي المسئوولية والوظيفة التي تحملها بامانة وعدم الاستفادة غير المشروعة من الفرص المتاحة امامه من خلالها بل يكتفي بما ياتيه من الحلال، وهذه هي التقوى الاجتماعية التي يريدها امير المؤمنين، فهي تقوى تفاعلية اجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الاجتماعية والمطالب الحياتية لكافة الناس، هذه المشاركة في الحياة تفرض على الإنسان أن يعيش لغيره كما يعيش لنفسه وان يرضى للاخرين ما يرضى لنفسه. وهناك التقوى الفردية وهي الحالات التي يعيشها الانسان المتقي بينه وبين ربه، وقد وصف الإمام (ع) في خطبة همام في وصف المتقين - تلك الحالات والمقامات والكرامات التي تظهر لأهل العبادة المعنوية في ظلال عبادتهم، إذ يقول (ع):(قد حفّت بهم الملائكة، وتنزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد الكرامات، في مقام اطلع الله عليهم فرضي سعيهم وحمد مقامهم، يتنسمون بدعائه روح التجاوز...) [25] . 5. ذكر الله تعالى واحدة من الاصول التربوية المهمة في النمنهج التربوي عند امير المؤمنين هو ذكر الله تعالى في كل وقت وحال، ويعتبر هذا الذكر أساس لجميع الآثار التربوية والمعنوية والأخلاقية والاجتماعية، ويشير القرآن الكريم إلى الأثر التربوي والروحي للعبادة وللصلاة على وجه الخصوص، فيقول سبحانه: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [26] وقال تعالى أيضاً: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي)[27] ويشير بهذا إلى أن المصلي الذاكر لله لا ينسى أنه هو عبد مراقب من قبل الله الذي يرى ويسمع وهو أقرب اليه من نفسه. إن ذكر الله يجلو القلب ويصفيه ويزكيه ويطهره، ويعدّه لإجراء الحكمة فيه وعلى لسانه، قال الإمام علي (ع) في اهمية الذكر:(إن الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب، وتسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به المعاندة. وما برح لله في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات: رجال ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم) [28] ، وقد بين الإمام (عليه السلام) في هذا الكلام الأثر الغريب لذكر الله في القلوب، حتى أنها قد تستعد بذلك لتلقّي الإلهام من الله سبحانه والكلام معه. هذه باختصار هي أبرز معالم التربية الخلقية التي اعتمدها الإمام علي (عليه السلام) في سبيل إعداد الإنسان العالم المؤمن الذي اهتدى بنور العلم والإيمان إلى نهج السبيل الحق وتغلب على نفسه الأمارة بالسوء وسلك طريق العلم والعمل بوحي من ضميره الخلقي وحق له أن يكون من خلفاء الله في أرضه، الذي يخضع فكراً وسلوكاً لأحكامه وتعاليمه، وخصائص هذا المنهج التربوي تنطلق من مفهوم شامل للتربية تتناول الإنسان بمختلف أبعاده وتنظر إليه كوحدة متكاملة تبرز حقيقته وطبيعته الانسانية ناظرة الى الهدف النهائي والغائي للكمال الانساني الدنيوي والاخروي. والحمد لله رب العالميننظرة لخصائص المنهج التربوي عند الإمام أمير المؤمنين عليه السلام نظرة لخصائص المنهج التربوي عند الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الشيخ خالد النعماني تمهيد تعتبر التربية والتزكية من اهم الاهداف للرسالات الالهية قاطبة لانها تتعالى بالانسان الى مراتب الكمال النهائي الذي اراده الله سبحانه للانسان ولهذا نجد ان القرآن الكريم حينما تحدث عن هدف بعثة النبي الخاتم( ص) اعطى للتزكية والتربية المكانة الاولى ومن ثم اردف بالتعليم قال تعالى: (هو الذی بعث فی‏الامیین رسولا منهم یتلوا علیهم آیاته و یزکیهم ویعلمهم الکتاب والحکمة و ان کانوا من قبل لفی ضلال مبین)[1] ، بل يمكن القول ان القرآن الكريم كتاب فريد في منهجه التربوي وكذلك سيرة الرسول الاعظم والائمة خلفائه من اهل بيته (عليهم السلام). ولا تخفى الحاجة الماسة في مجتمعنا اليوم إلى منهج تربوي ثابت في اُصوله واضح في مقوماته وموازينه، بل قد تصل هذه الحاجة لحد الضرورة، لان التربية هي التي تحدد القيم الصالحة والسامية في الواقع الانساني، وتنشر قيم الفضيلة والرقي والتكامل في المجتمع، وتؤسس للمدينة الفاضلة التي كان وما زال يتمناها كل انسان ذو لب وايمان وعدل. وقد بذل المصلحون على مر التاريخ جهوداً مضنية لتوضيح منهج تربوي يستندون إليه في انطلاقاتهم نحو تربية الانسان والمجتمع على اُسس سليمة وصالحة، وفي بيئتنا الإسلامية كان النبي( ص) واهل بيته القدوة الصالحة والمربين الذين أناروا الطريق للمسلمين بكلماتهم وسلوكهم العملي الذي يعتمد على الأسس والمفاهيم والقيم الإسلامية السمحاء. وفي هذه المقالة المختصرة ساحاول ان أسلط الضوء على بعض جوانب القيم التربوية لوصي الرسول الامام امير المؤمنين (ع) من خلال كلماته وسلوكه العملي وهي كثيرة جدا ولكني ساقتصر في الاشارة الى بعضها آملا ان تكون نبراسا نقتدي بها في حياتنا وسلوكياتنا وواقعنا الحياتي اليومي لننال بها سعادة الدنيا والاخرة انه سميع مجيب. اولا: تعريف التربية 1. التربية لغة ذكر علماء اللغة معان لمفهوم التربية منها ما ذكره ان منظور في لسان العرب حيث قال:" رَبا الشئَ يَربو رَبْواً ورِباءً بمعنى: زاد ونما، وأربَيْته: بمعنى نَمَّيْته، وفي التنزيل العزيز (ويُربي الصدقات ) ومنه اخذ الربا الحرام."[2] ، وذهب بعضهم الى ان معنى التربية لغة مأخوذة من"ربى ولده، والصبي يربه، رباه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك." [3] واشار اخرون الى المعنى اللغوي بالقول" رَبَّ، يُرَبِّ الوَلَدَ، بمعنى تعهده وربّاهُ وادّبَهُ."[4] ويمكن تلخيص المعنى اللغوي لكلمة التربية الى اصول ثلاث وهي:- الف. ربا ، يربو : بمعنى زاد ونما. ب. ربي ، يربى – بوزن خفي يخفى ، بمعنى نشأ وترعرع. ج. رب، يرب: بمعنى اصلحه وتولى امره وساسه وقام عليه ورعاه. وبذلك تكون معاني التربية في اللغة: الزيادة والنمو والنشوء والترعرع والإصلاح والرعاية والسياسة وتولي الامر. 2. التربية اصطلاحا هناك تعريفات كثيرة للتربية من حيث الاصطلاح وهي متشابهة تقريبا في أكثرها ومستفادة من المعنى اللغوي، فمنهم من قال ان التربية هي" التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال " [5]، وفي تشبيه لطيف ذكر الغزالي معنى التربية فيقول" التربية تشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه" [6] وما يهمنا هنا في تعريف التربية هو ما أراده الامام امير المؤمنين في كلماته والتي تفسر حقيقة مفهوم التربية من وجهة نظر اسلامية دينية. فالامام يرى أن الإنسان هو غاية الوجود والهدف من خلقته هو الوصول الى الكمال النهائي الذي اراده الله تعالى له، وجعله خليفته في أرضه، ولكي يصل الى كماله يجب عليه الالتزام في أقواله وأفعاله ومقاصده، وفق أحكام الله وهداه كما قال الله تعالى لابينا آدم عند هبوطه من الجنة" قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" [7] إن ضعف الإنسان أمام الإغراءات المادية الدنيوية يتحتم عليه السلوك في طريق التربية والتعليم وفق الصراط المستقيم الذي رسمه الله تعالى ولكي يقوى على مقاومة الضلالة والفساد، ورفع الموانع التي تمنعه من وصوله الى الكمال، وهذه التربية، لا تستند فقط إلى مبادئ نظرية لا صلة بها بالواقع، بل تتخذ منها طريقاً ومنهجاً وسلوكا عمليا تترك آثارها على نفس الانسان وكذلك تتجلى ثمراتها في المجتمع. وكثيرة هي الخطب والكلمات التي تضمنها كلام امير المؤمنين في نهج البلاغة وهي تدعو وتحث على العلم والعمل ولهذا قال الإمام امير المؤمنين (ع) (العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل) [8] ، فليس المهم من وجهة نظر القرآن الكريم وكلمات الإمام (ع) كثرة العلوم النظرية، لأنها لا تغني عن السلوك الحسن والسيرة الخيرة، فالمعيار هو الاحسن لا الاكثر، فالتربية التي تعتمد الكمية في أساليبها لا تجدي نفعا ما دامت لا تستند إلى الكيفية والنوعية، وهذه النوعية يجب ان تقترن بالعلم، التغيير والنمو في شخصية الفرد والمجتمع كما يقول (ع):(لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا وإذا تيقنتم فأقدموا) [9] . ثانيا: بعض خصائص المنهج التربوي في كلمات امير المؤمنين: (عليه السلام). هناك خصائص كثيرة يمتاز بها المنهج التربوي للإمام (ع) تعتبر الأساس والمنهج في تربية الإنسان المؤمن نشير اليها هنا باختصار: 1ـ تقوية قوى الخير في نفس الإنسان يمكن القول ان الإنسان مجمع الأضداد، فهو يجمع القوة والضعف والعقل والشهوة، فهو القوي بعقله وفعاليته ولكنه هو الضعيف في نفس الوقت الذي (تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة) [10] ، ففي اعماق نفسه تتصارع قوى الخير والشر فهو يجمع الى جانب العواطف والأهواء والغرائز العقل والفطرة، وحياته تعتورها حالات متضادة نتيجة للصراع بين قواه العقلية والعاطفية، فيمكن ان يرتفع إلى كماله اللائق به اذا ما جعل من عقله القائد والمدير والمدبر لسلوكه واعماله، ويمكن ان ينحدر إلى مستوى البهيمية اذا ما جعل من غرائزه هي التي تتحكم به، وتسليطاً للضوء على طبيعة المعركة مع النفس وتحديد اطرافها ومواقعهم يقول الامام علي (عليه السلام):« العقل صاحب جيش الرحمان، والهوى قائد جيش الشيطان، والنفس متجاذبة بينهما فايهما غلب كانت في حيزه» [11] . والاسلام اكد مرارا على اهمية التوازن بينهما ليكون الانسان الكامل الذي جعله الله تعالى خليفته في ارضه والتربية هنا هي ضرورة تقوية قوة العقل والتوازن بينهما وبين العواطف والغرائز واعطاء كل منهما حقه في الكمال وقد شار امير المؤمنين الى هذه الميزة التربوية فقال (ع): (لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه، وهو القلب، وذلك أن له مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ وإن غاله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمر استلبته الغرّة، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قعدت به الضعة، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد) [12] . فالانسان يجمع إلى جانب قوى الخير قوى أخرى تجنح به نحو الشر، والنفس الانسانية لها خصوصية فريدة وهي قدرتها على التزكية والفالح وتحولها الى عالم الملائكة او افضل ويمكن ان تنحدر الى مقام ارذل من الانعام والبهائم، ويمكن تشبيه حالة الانسان هذه بلوحة خالية وقد اعطانا الله تعالى كل ادوات الرسم وترك لنا الحرية والاختيار في رسم اي صورة نريد ان نعيش بها حياتنا الابدية الخالدة اما في الجنة كاملين متنعمين او في جهنم معذبين مخلدين والمفلح هو الذي يستطيع ان يزكي نفسه كما قال تعالى: (قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها) [13] . فالإنسان لا يميل بطبعه إلى الخير أو إلى الشر، لأنه قادر على فعل الخير كقدرته على فعل الشر، ونوع التربية التي تتعهده بها البيئة التي يعيش فيها، هو الذي يجنح به نحو الخير أو الشر. ولقد أعطى (عليه السلام) القدوة التي يجب أن تحتذى لحسم صراع النفس مع شهواتها لصالح الإنسان الفاضل وكانت وصاياه ومواعظه تصب في هذا الإطار فيقول في وصية إلى شريح بن هانئ: (واعلم أنك لم تردع نفسك عن كثير ممّا تحب مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر فكن لنفسك مانعاً رادعاً، ولنزواتك عند الحفيظة واقماً قامعاً) [14] . 2ـ مقارنة العلم للعمل هذه ميزة وخصيصة مهمة في المنهج التربوي الالهي، وقد أشار الله تعالى اليه في كتابه المنزل على قلب نبيه، فقد قرن الايمان والعلم بالعمل، وقلما نجد اية في القرأن تشير الى فلاح الذين امنوا والا وقرنها الله تعالى بالعمل (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وهذا المنهج التربوي العملي اشار اليه امير المؤمنين كأحد الخصائص بالغة الاهمية في التربية، فالعلم والمعرفة القائمة على التصورات فقط لا قيمة لها، بل احيانا تكون وبالا على صاحبها ولا يترتب عليها أدنى منفعة، بل قد تؤدي الى مهلكة للانسان تصيبه بالاوصاف الرذيلة كالكبر والغرور والترفع عن الاخرين وغيرها من الصفات الرذيلة التي نهى عنها الاسلام. هذه الحقيقة اكدها الإمام (ع) كثيرا فيقول: (خير القول ما نفع، واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع)[15] وقال كذلك (ع):(أوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح والأركان)[16] . 3ـ التفكر والتدبر التفكير ضرورة تربوية هامة في المنهج التربوي العلوي، فهو مقدمة ومحرك للعمل الصالح، فالتفكير هو إحدى المكونات الرئيسية للنظام المعرفي والتربوي للانسان، وأهميته تكمن في إعطائه القدرة على تنمية الفكر الإنساني وانطلاقه وتحريره من الجهل والجمود والتقليد، والتدبر في عواقب الامور ونتائجها. وقد أشاد الإمام امير المؤمنين بالتفكر الصحيح ودعا إلى تنميته ، لأن الفكر جلاء للعقول، كما أنه يفيد الهداية والرشد واليقظة والاستبصار، ويعصم عن الضلال والشك، وكثيرة هي الكلمات والحكم التي صدرت عنه بهذا الخصوص حيث يقول: (الفكر يهدي) و(الفكر عبادة)، و(الفكر رشد) و(الفكر ينير القلب) [17] . والإمام (ع) يجد في التفكير انارة للقلب ومن خلالها تكون لدى الانسان القدرة على كشف الحقائق وتخليص العقل من الأوهام والأساطير، كما وأنه يرى فيه الهداية والرشد والرأي السديد ليس ذلك فحسب، بل أن العلم الحاصل عن التفكير هو من أشرف العلوم وأكثرها ثباتاً ودقة، لذلك كان التفكير أحد العوامل الرئيسية في عملية التربية والتعليم. وقد قرن (ع) بين التفكير والرشد والهداية وبين العلم الرفيع الذي بني على أساس التفكير وجعل افضل العلم هو المستند على الفكر والتأمل قال (ع): (لا علم كالتفكير) [18] . وأشار الإمام علي (ع) الى اثار التفكر والتدبر وانه يفضي الى ان يزدهر مصباح الايمان والهدايى في قلب الانسان المؤمن المتفكر، من ذلك قوله: (عباد الله، إن من أحب عباد الله إليه، عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعد القرى ليومه النازل به فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد، نظر فأبصر، وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده، فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً جدداً، قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى عن الهموم إلا هماً واحداً انفرد به. فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى، وقد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبل بأمتنها. فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور، من إصدار كل وارد عليه، وتصيير كل فرع إلى أصله، مصباح ظلمات، كشاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص لله فاستخلصه، فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه. قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه. يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلا أمها، ولا مضنة إلا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده وإمامه، يحل حيث حل ثقله، وينزل حيث كان منزله) [19] . 4. تقوى الله إن كلمة (التقوى) من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً، فليس هناك كتاب يركّز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتنى به أكثر من التقوى. والتقوى من الوقاية، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب ولا سيما عن الحدود المحرمة التي امرنا الله تعالى بعدم تجاوزها،ولا شك أن الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل. إن مفهوم التقوى في المنهج التربوي عند الامام امير المؤمنين هو بمعنى قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب، فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدمة للحصول على هذه الحالة الروحية، وهو - من ناحية أخرى - من لوازم حالة التقوى ونتائجها. إن هذه الحالة تهب للروح قوة ونشاطاً، وتصونه من الانحراف والسقوط والانزلاق نحو الهاوية، وكلما حصلت الروح الإنسانية على ملكة التقوى) كلما حفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع. ويصف الامام (ع) التقوى بأنها قوة معنوية روحية، تحصل على أثر التمرين والممارسة، ولها آثار ونتائج، منها تيسير الحذر من الذنوب، حيث يقول (ع): (ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات.. ألا وإن الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار..ألا وإن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة..) [20] . فقد وصف الإمام (ع) التقوى في خطبته هذه بأنها حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها، وأن من لوازم اتباع الهوى وترك التقوى هو ضعف النفس أمام هواها، وأن فاقد التقوى حينئذ يكون انسان ضعيف لا إرادة له في ادارة نفسه وهواه، بل الشهوات والهوى هو الذي يسيره حيث يشاء، وأن من لوازم التقوى قوة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة، يقول الامام (ع): (إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم) [21] ، وفي هذه الكلمة يصرح الإمام (ع) بأن التقوى شيء يكون الحذر من الحرام والخوف من الله من لوازمه وآثاره، وعلى هذا، فليست التقوى هي نفس الحذر، ولا نفس الخوف من الله، بل قوة مقدسة روحية توحي بهذه الأمور وتستتبعها. فالتقوى من وجهة نظر الامام قوة مقدسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقدام والإحجام، إقدام على القيم المعنوية، وإحجام عن الدنايا المادية، إن التقوى هي حالة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلّط بها على نفسه ويمتلكها، يقول الإمام (ع): (اعلموا عباد الله: إن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه. ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا) [22] . ويصرّح في بعض كلماته أن التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرر بل هي منبع الحريات الواقعية وأساسها ومنشؤها، حيث قال الإمام (ع): (فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة) [23] . ومن الواضح أن التقوى تهب للإنسان حرية معنوية، تحرره من أسر عبودية الهوى، وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة، ولا يخضع التقي لأعباء هذه العبودية. ولقد تناول الإمام (ع) في كلماته ومواعظه آثار التقوى كثيراً، ومن أهم آثار التقوى الذي أشار إليها أثران مهمان، أحدهما البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة، والآخر القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد. أن التقوى التي يؤكد عليها الامام هي وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن، وتوقظ من نوم الغفلة، قال الإمام علي (ع) حول اثار التقوى: (أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم وأشعروها قلوبكم وارحضوا بها ذنوبكم.... ألا فصونوها وتصوّنوا بها) [24] . ولاهميتها البالغة في التربية الانسانية الايمانية نجده (ع) يشدد على التقوى في الكثير من خطبه وكلماته، بل يمكن القول انه ما ترك فرصة الا واكد على هذه الصفة والخصلة المهمة والمؤثرة في المنهج التربوي، فالتقوى هي التي تهب النفس القوة والنشاط، وتصونها عن الانحراف والشطط، وتدفع بها إلى ملكوت الله حيث السعادة الأبدية، والواضح من من كلماته (ع) ان التقوى لا تعني ترك المجتمع واعتزاله، بل هي توحي إلى الإنسان بأن يتقي الله في دنياه، ويعمل لدنياه كما لآخرته، ويعيش حياته بكل بساطة وقناعة، ويؤدي المسئوولية والوظيفة التي تحملها بامانة وعدم الاستفادة غير المشروعة من الفرص المتاحة امامه من خلالها بل يكتفي بما ياتيه من الحلال، وهذه هي التقوى الاجتماعية التي يريدها امير المؤمنين، فهي تقوى تفاعلية اجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الاجتماعية والمطالب الحياتية لكافة الناس، هذه المشاركة في الحياة تفرض على الإنسان أن يعيش لغيره كما يعيش لنفسه وان يرضى للاخرين ما يرضى لنفسه. وهناك التقوى الفردية وهي الحالات التي يعيشها الانسان المتقي بينه وبين ربه، وقد وصف الإمام (ع) في خطبة همام في وصف المتقين - تلك الحالات والمقامات والكرامات التي تظهر لأهل العبادة المعنوية في ظلال عبادتهم، إذ يقول (ع):(قد حفّت بهم الملائكة، وتنزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد الكرامات، في مقام اطلع الله عليهم فرضي سعيهم وحمد مقامهم، يتنسمون بدعائه روح التجاوز...) [25] . 5. ذكر الله تعالى واحدة من الاصول التربوية المهمة في النمنهج التربوي عند امير المؤمنين هو ذكر الله تعالى في كل وقت وحال، ويعتبر هذا الذكر أساس لجميع الآثار التربوية والمعنوية والأخلاقية والاجتماعية، ويشير القرآن الكريم إلى الأثر التربوي والروحي للعبادة وللصلاة على وجه الخصوص، فيقول سبحانه: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [26] وقال تعالى أيضاً: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي)[27] ويشير بهذا إلى أن المصلي الذاكر لله لا ينسى أنه هو عبد مراقب من قبل الله الذي يرى ويسمع وهو أقرب اليه من نفسه. إن ذكر الله يجلو القلب ويصفيه ويزكيه ويطهره، ويعدّه لإجراء الحكمة فيه وعلى لسانه، قال الإمام علي (ع) في اهمية الذكر:(إن الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب، وتسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به المعاندة. وما برح لله في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات: رجال ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم) [28] ، وقد بين الإمام (عليه السلام) في هذا الكلام الأثر الغريب لذكر الله في القلوب، حتى أنها قد تستعد بذلك لتلقّي الإلهام من الله سبحانه والكلام معه. هذه باختصار هي أبرز معالم التربية الخلقية التي اعتمدها الإمام علي (عليه السلام) في سبيل إعداد الإنسان العالم المؤمن الذي اهتدى بنور العلم والإيمان إلى نهج السبيل الحق وتغلب على نفسه الأمارة بالسوء وسلك طريق العلم والعمل بوحي من ضميره الخلقي وحق له أن يكون من خلفاء الله في أرضه، الذي يخضع فكراً وسلوكاً لأحكامه وتعاليمه، وخصائص هذا المنهج التربوي تنطلق من مفهوم شامل للتربية تتناول الإنسان بمختلف أبعاده وتنظر إليه كوحدة متكاملة تبرز حقيقته وطبيعته الانسانية ناظرة الى الهدف النهائي والغائي للكمال الانساني الدنيوي والاخروي. والحمد لله رب العالمين

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.