ما هی التحولات الجدیدة فی التربیة الدینیة؟

د.عبد العظیم کریمی – خبیر تربوی
- ماهی الأبعاد الدینیة التی یجب التأکید علیها فی التربیة والتعلیم اکثر من غیرها؟
*  لا بدّ لنا فی البدایة، من أن نتعرّف إلى الأبعاد التی تشکل روح التربیة الدینیة، وعندئذ، یمکن لنا ، فی الإجابة عن هذا السؤال ، أن نقول إن الإیمان القلبی هو أساس الجوانب المعتقدیة والأخلاقیة والأحکام.
فعلى سبیل المثال: إذا لم تکن الأخلاق ناشئة من الأیمان والإرادة والرغیة، فسوف نحصل من التربیة الدینیة، على انضباط خارجی وسطحی ، لا على أخلاق مستمرة نابغة من الداخل . کذلک فإن العمل بالأحکام الدینیة، إذا لم یکن ناشئاً عن إیمان وتجربة معنویة وحضور قلبی، فلیس له أی قیمة تربویة. لذا ، فإن شرط قبول الطاعات والعبادات فی الإسلام- حتى فی الصلاة والصوم وما إلیها- هو النیة وحضور قلب وقصد التقّرب إلى الله سبحانه وتعالى.
فإذا کان البعد الأخلاقی مرتبطاً بالمحرکات الخارجیة فقط (الترغیب والترهیب والعقاب والثواب ، إلخ...) وغیر نابع  من إیمان داخلی، فلیس له أی أصالة داخلیة وسوف یکون منطلقه الأیمانی موضع تساؤل أیضاً.
وعلیه ، فإن ((التجربة الدینیة)) التی هی بمثابة تحول داخلی فاعل، وعلاقة حبّ مع الله سبحانه وتعالى ، یمکن أن تشکل الأرضیة المناسبة لظهور سائر الأبعاد الدینیة فی المجالات الاجتماعیة والأخلاقیة والعبادیة، علما بأن هذه التجربة لابدّ أن تکون مقترنةً بالبصیرة والمعرفة ولیست مجرّد احاسیس وانفعالات عاطفیة.
-          إلى أی حد یمکن أن نتوقع من التربیة والتعلیم أن یقوما بخطوات فعّالة فی مجال التربیة الدینیة؟ وما هی المجالات التی یمکن أن تعطی أنشطةَ افضل ونتائج اکثر نجاحاً؟
•    للإجابة عن هذا السؤال بصورة دقیقة، علینا قبل کلّ شیء، أن نحدّد میزان توقعاتنا من الدین: هل یتناول الدین جمیع جوانب الحیاة، أم أنه یقتصر على القضایا الفردیة والعبادیة؟ فإذا نظرنا إلى الدین باعتباره نصاً شاملاً جامعاً، خالداً وعالمیاً ، لهدایة الإنسان فی جمیع أبعاد حیاته، فإنه یستحیل حینئذ الفصل بین ((التربیة الدینیة)) و((التربیة الأخلاقیة)) و((التربیة السیاسیة))  وحتى ((الاقتصادیة)) و((المعیشیة)) إلخ .. وعلینا أن نسلّم بجامعیة التربیة الدینیة لأی نوع من أنواع التربیة والتعلیم التی تؤدی إلى نضوج ((الفطرة الإنسانیة)) والاستعدادات المعنویة. فعلى سبیل المثال، التربیة ((الفکریة)) و((العقلیة)) عند الطفل ، والتی تؤّدی إلى ((التفکیر الصحیح)) و(( السمع الصحیح)) و((الحکم الصحیح))،هی نوع من أنواع التربیة الدینیة.کما أن تربیة ((الذوق الفنی)) و((الشعور بالجمال)) بواسطة تقویة الأنشطة الفنیة، یمکن أن تقع فی إطار التربیة الدینیة أیضاً؛ لا بل حتى التربیة البدنیة، یمکن لها أن تأخذ صبغة دینیة، إذا کانت النیة خالصة فالمهم هو وجهة التربیة فی إنضاج جمیع استعدادات الإنسان للتطور، وقابلیّاته للتکامل. فإذا ما استطعنا تفعیل کوامن الفطرة الإنسانیة، فسوف نحصل على تربیة دینیة بصورة طبیعیة.
-          وهناک سؤال یطرح نفسه: مبدئیاً، هل التربیة حق الدولة أم حق الوالدین؟ وهل التربیة عملیة (( خاصة)) تعود إلى الأفراد، أم عامّة؟
•    تستلزم الإجابة على أی من هذه الأسئلة تعیین المعاییر وتبیین المبانی النظریة لأن هناک سؤالاً آخر یطرح نفسه، وهو : هل یجب تربیة الأطفال وفقاً لما یقتضیه ویریده المجتمع الحاضر،أم وفقاً لمقتضیات المستقبل؟ أم یجب تربیتهم طبقاً لاستعداداتهم ولقابلیّأتهم وحاجاتهم الفعلیة؟ علینا أیضاً تعیین الحدود بین (( التربیة الرسمیة)) والتربیة ((غیر الرسمیة)).
هذا السؤال الذی لم یطرح الیوم فحسب، وإنما طرح من قبل أیضاً، هو من أهم محاور الاختلاف فی التربیة والتعلیم فی الوقت الحاضر. هناک من یعتقد بأن واجب النظام التعلیمی هو تهیئة الظروف المساعدة واللازمة لنمو قابلیات الطلاب، وأن النظام التعلیمی لا یجوز له أن یستخدم هذه القابلیات لمصالحه الاقتصادیة واحتیاجاته الخالصة. والحقّ، أنه لا یجوز أن نجعل شخصیة الطفل واستقلالیتها قرباناً للمصالح والمقتضیات الاجتماعیة، بل لا بدّ من أن یکون هناک تزاوج بین الحاجات الفردیة والمقتضیات الاجتماعیة من جانب ، وإیجاد علاقة متعادلة بین (( التربیة الرسمیة)) و((التربیة غیر الرسمیة)) من جانب آخر. وعلى هذا النحو، یمکن أن تحلّ المشکلات.
-          ما هی الأولویات التی یجب أن یطمح إلیها القنیمون على امور التربیة والتعلیم فی تربیة الطلاب وتعلیمهم؟
•    یرتبط تعیین الأولویات ترتبط ارتباطاً مباشراً مع قابلیات الطلاب من جهة، والحاجات والمقتضیات الاجتماعیة من جهة آخرى، ولکن أساس جمیع هذه الأولویات هو تربیة قوة التفکر والتعقل عند الطلاب ، فإذا ما تطورت هذه القوة عند الطلاب ، فسیتاح له الفهم والإدراک الصحیح، فیفهم العالم ویفهم نفسه فی آن معاً، وسوف تحل قابلیة ((إنتاج الفکر)) محل من استهلاکه، والقدرة على التقییم الواعی المنصف محل التقلید والانفعال والتلقّی.
فإذا ما نضجت قدرة التعقل والتفکر عند الطلاب بشکل غنی وفعال، فسوف تکون النتائج الطبیعیة لذلک  ، هی البحث عن الحقیقة والشعور بالجمال وعبادة الله. والحقّ، أن تربیة الطلاب على أن یکونوا عقلاء ، بالمعنى الواقعی، تمهّد الأرضیة لسائر الأبعاد التربویة الأخرى؛ إذ یمکن من طریق قوة (( التعقل والتفکر)) والحصول على (( المحبة)) و((التدّین)) أیضاً.
-          هل یمکن للمناهج المعاصرة أن تحقق أهداف التربیة الإسلامیة؟ وما هی المناهج الحدیثة التی تقترحها؟
•    للإجابة عن هذا السؤال ، لابدّ أن نحدّد المقصود من ((أهداف التربیة الإسلامیة)) . فهل هذه الأهداف مدوّنه؟ وإذا کانت مدونة، فما هی معاییر تدوینها؟ فما یمکن أن یقال فی المناهج الحاکمة على التربیة والتعلیم، هو أنّ أغلبها مناهج ((أحادیة الاتجاه)) و((آلیة)) و((غیر فعّالة)).
فهی تتعامل مع موضوع الطالب وتربیته ، بأنه ((آلة صماء)) أو (( کالشمع اللیّن)) الذی یمکن أن یتشکل فی صور عدّة، حیث یقوم المربّی ، فی ضوء ما یملکه من أفکار وآراء، بتلقین الطالب مجموعة من العقائد والمطالب ، ثم یتمکن من طریق الترغیب والترهیب، أن یتشکله فی الشکل (( المطلوب)).
إن لفظ الشکل ((المطلوب)) یستحق التأمل کثیراً، أی أن أولادنا سیتربّون کما نرید ونستطیع، لا کما یریدون  ویستطیعون.
-          هل یکن أن تؤسس التعالیم التربویة فی ضوء التعالیم الدینیة فقط؟ ماذا علینا أن نفعل فی مثل هذه الحالة؟
•    أولاً، إن الأساس النظری لطرح هذا السؤال یبتنی على رؤیة ((خارجیة)) للدین والتربیة الدینیة، لأن التربیة الدینیة لیست مسألة خارجة عن وجود الفرد ، لکن یمکن أن تنقل إلیه من طریق مجموعة من المحفوظات، ثم یتمّ ترسیخها فی الذهن من طریق الترهیب والترغیب، بل إن قبول مسألة ((ذاتیة)) و(( عفویة))، أی لیس صحیحاً أن نقوم بفرض شیء من الخارج لکی یصبح أمراً داخلیاً متجذراً فی باطنه، بل لابدّ من القیام بما من شأنه أن یفعّل القابلیات الفطریة للطفل . والحقّ، أننا لا نستطیع إیجاد قابلیة الإبداع مثلاً، أو الریاضیات أو الرسم، إلأخ...
وإنما نحن نقوم باکتشافها وتنمیتها فحسب. إن المهمة الدینیة لیست تجذیر الحسّ الدینی وتأسیسه، بل تفعیل استعداد التدین عند الإنسان.
کما أن الفن لیست مهمته إیجاد الشعور بالجمال بل تربیة هذا الشعور عند الطلاب.
-          إلى أیّ مدیً تنطبق البرامج التربویة المعروفة مع الواقع القائم ومع أهداف التعلیم والتربیة الإسلامیة؟
•    أما بالنسبة إلى انطباق هذه البرامج على الواقع القائم، فعلینا أن نقول بأن هذا الارتباط ضعیفٌ جداً، بل قد یحصل فی بعض الأحیان، تعارض بین هذه البرامج وبین أهداف التربیة الإسلامیة! فلیست هناک قطیعة کبیرة بین ما یرمی إلیه المسؤولون من وراء وضع البرامج التربویة، وبین ما ینفذه المعلمون والمدراء وما یکتسبه الطلاب، فحسب، بل إن التعارض یشمل أیضا البرامج التربویة، لناحیة وجهتها. ویمکن تشبیه هذه البرامج بذرات الغبار المعلقة التی لا یجمعها جامع، هناک تنافر بین (( النظام الداخلی)) و((النظام الخارجی)) ، بل حتى بین أجزاء النظام.علاوةً على ذلک ، لم یتمّ بعد تحدید أهداف التربیة والتعلیم الإسلامیة، کما أن محاور ومواد البرامج التربویة لاتزال غیر معروفة.
-          هل یمکن ترک جمیع أبعاد التربیة إلى نظام التربیة والتعلیم الرسمی؟بعبارة أخرى: هل یمکن أن نتوقع من نظام التربیة والتعلیم الرسمی الضطلاع بهذه الأبعاد جمیعا؟
•    إجابتی عن هذا السؤال هی بالسلب، لأنّ مثل هذا العبء الضخم وهذه الرسالة الکبیرة، لا یمکن أن یضطلع بهما مثل هذا النظام الذی لا ینبغی له أن یضطلع بهما ، على أیّة حال. إن القسم الأعظم من العملیة التربویة مرتبط بالظروف الطبیعیة ومنبثق من المنطلقات الطبیعیة غیر الرسمیة؛ حتى إنه یمکن لنا القول إن أکثر الآثار التربویة دیمومة، هی التی تنشأ فی أجواء الحیاة غیر الرسمیة، وإن ما یجعل العملیة التربویة سطحیة، غیر للکلمة، هی تغیر ذاتی نابعٌ من الداخل.
یمکن للتعالیم الأخلاقیة والدینیة أن تؤتی أکلها ، وأن تترک آثارها فی نفس المتعلم، عندما تنبثق بصورة ((طبیعیة)) ، ((غیر رسمیة)) و(( واقعیة))، وعندما تخرج عن الجانب الرسمی والمتکلف. إن العملیة التربویة لا بدّ أن تقترن بالحریة والاختیار والرغبة القلبیة للمتلقی، فهل یمکن أن تمتلک ((التربیة الرسمیة)) مثل هذه الخصوصیات؟
-          ماهی اقتراحاتکم لإیجاد تحول جدید فی التربیة، ولا سیّما فی مجال التربیة الدینیة؟
•    فی الجملة ، من أجل إیجاد تحول فی نظام التربیة والتعلیم ، لابدّ من الاهتمام بالمحاور التالیة:
1-      فی مجال التعلیم/ التعلّم، لا بدّ أن یحلّ منهج ((کیف)) نتعلم؟ محلّ ((ماذا)) نتعلم؟
2-      یجب أن تحلّ ((الکفاءة)) محلّ (( العلاقات)) فی نظام الإداری.
3-      إحلال محوریة ((طرح الأسئلة)) و(( الاهتمام بمسارالتعلیم)) فی القییم الدراسی محلّ محوریة ((الإجابة عن الأسئلة)) و(( النتائج و الأرقام)).
4-      لابدّ أن یحتل (( المحتوى الداخلی)) و(( الإیمان الداخلی)) محلّ (( الشکلیة)) و(( الانضباط الخارجی)).
5-      فی التربیة الاجتماعیة ، لا بدّ أن تحلّ ((المهارات الأساسیة للحیاة)) محل ((المعلومات)) و(( المحفوظات الذهنیة)).
6-      لا بدّ أن تحل ((العقلانیة)) و((المدنیة)) محل ((الأذواق الفردیة)) و((التحکم)) فی موضع البرامج واتخاذ السیاسات.

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.