تأسيس الحضارة الاسلاميّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين وبعد.

كان ذلك مجتمع العرب بخيره القليل وشرّه الكثير، ثمّ ما لبثت الدعوة الإسلامية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشيراً ونذيراً لقومه خاصة وللناس عامّة أن احتلت مكانها في قلوب المؤمنين، إنها دعوة منطَلَقها كريم، ومبعثها رحيم، هي تدعو إلى الإيمان بالله خالق الكون وبارئ السماوات والأرض، وتحضّ على الخير وتنهى عن الشر وتكرم الإنسان وتدفع به إلى التماس العلم أينما وجد، وإلى تحصيل المعرفة أنّى عثر عليها ومهما كانت بعيدة، بُعد الصين عن المدينة بمقاييس ذلك الزمان.

إنّ أولى آيات كتاب الدين الإسلامي "القرآن الكريم" تحضّ على التعليم ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ1.

ولا يزال الإسلام يحضّ على العلم ويدعو إليه في آيات عزيزة كثيرة: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ2, فعلم البيان مقرون بخلق الإنسان. ويمجّد الإسلام العلماء، ويفرق في الحكم بينهم وبين العامّة فيقول الكتاب العزيز: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ3. ذلك أنّه كلّما ازداد المرء علماً ازداد قرباً إلى الله وخشية له، والقرآن يسجّل ذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء4.

فالعلماء أكثر الناس فهماً لآلاء الله ووعياً لآياته وتمثّلاً لبديع قدرته: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ5.

ويخاطب القرآن الكريم العقل والقلب جميعاً ويدفع بهما إلى التأمّل في كل ما خلق الله فإنّ العقل الراجح والقلب المتفتّح إذا أنعم النظر في آيات الله كان أقرب إلى الإيمان وأدنى إلى التقوى:﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ6 .

وفي نطاق دفع العقل الإنساني إلى التفكير يقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ7.

ويخاطب الإسلام العقل ويحّضه على التفكر في خلق الكون والوصول - ما استطاع - إلى شواطئ المعرفة، ومراسي العلم، فيقول الكتاب العزيز: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ8.

إنّ كتاب الإسلام يتجه بالعقل إلى التفكّر في أخطر ما يمكن أن يتمثّله عاقل، وهل هناك أدنى شكّ في أنّ خلق السماوات والأرض لما يدعو إلى التفكّر، وأنّ اختلاف الليل والنهار يحضّ على التدبّر، وأن تمهيد متن الماء للفلك تجري عليها، وأن نزول المطر من السماء الذي يحيي الأرض وينبت الزرع يلفت النظر وينبّه العقل والقلب والخاطر؟!

وإذا كانت الحضارة بنت العلم، والعلم هدفٌ وضالة وغاية يسعى المسلم إليها جميعاً من واقع كتابه الذي آمن به، وتعاليم رسوله الذي اهتدى به، فليس ثمّة شكّ في أنّ العلم يدفع إلى الخلق والإبداع والتفكّر والتدبّر، وكلٌّ من الخلق والإبداع والتفكّر والتدبّر ينبت حضارة وينشئ معرفة.

يواكب هذا الكتاب تأسيس الحضارة الإسلامية الخطوات الأولى التي أرساها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الرسالة الإسلامية في الجزيرة العربية، ثم نشرها في الأصقاع المختلفة، وصولاً إلى بناء الحضارة الإسلامية الشامخة في فترة زمنية وجيزة قياساً مع أوقات بناء الحضارات، ويقدم تقويماً دقيقاً للمراحل المختلفة التي مرّ بها المسلمون وصولاً إلى عصر الإمام الخميني وبناء الدولة الإسلامية والنظام الإسلامي.

وهو دراسة علمية عميقة جديدة عن تأسيس الحضارة الإسلامية تعتمد على الفكر الأصيل للإمام الخامنئي (حفظه المولى)، وهي لا تغوص بشكل جامد في الأحداث كالدراسات التاريخية المحضة، بل تحلّل الأحداث وتستنطقها من بوابة الحاضر والمستقبل.

مركز نون للتأليف والترجمة

 

هوامش

1- سورة العلق، الآيات 1 – 5.
2- سورة الرحمن، الآيات 1 – 4.
3- سورة الزمر، الآية 9.
4- سورة فاطر، الآية 28.
5- سورة العنكبوت، الآية 43.
6- سورة غافر، الآية 57.
7- سورة آل عمران، الآيتان 190 – 191.
8- سورة البقرة، الآية 164.

 

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.