الايديولوجيا في مناهجنا التربوية

وليد المسعودي

 

من حيث المعنى تعرف الايديولوجيا بكونها علم الافكار السائدة لدى مجتمع معين او عصر معين، وكثيرا ما تقدم الايديولوجيا الافكار على الواقع المعاش، اي انها تحاول ان تطبق النظري على الواقعي ولكن الاخير يخالفها ويختلف عنها لانها تحمل الاقنعة والاوهام التي قد تفرضها على المجتمع ضمن حدود النسبي من الايديولوجيا وفقا لدرجة انتمائها الفكري والعقائدي .

فالايديولوجيا التي تطالب بحقوق العمال وتفضح الاستغلال الرأسمالي وتعلن ان العالم يعاني الاغتراب والاستلاب البشري بسبب سيطرة راس المال والسلطة الايديولوجية المصاحبة له، نقول انها تفضح الواقع وتتحداه وتعطي بديلا عنه، ولكنها من حيث الفعل والتطبيق تعاني الكثير من عدم الحضور وذلك لكونها نظرية شمولية تتصور ان العالم سينتهي لدى طبقة معينة تشهد الخلاص والسعادة البشريتين، كذلك الحال مع الايديولوجيا في شكلها القومي فانها ايضا تقدم الافكار وتحاول ان تنتج مثالها ونموذجها وقد تستطيع النجاح في ذلك الامر وتخدم المجتمعات التي تظهر فيها هذه الايديولوجيا، ولكنها في النهاية تظل مطلقة وشمولية، وهنا نذكر ان القومية في شكلها الايديولوجي استطاعت ان تبني الدول الحديثة ولكن نهايتها كانت مرعبة الى حد كبير، والنماذج واضحة في اوربا هتلر وموسوليني وغيرها من النماذج الاستبدادية، وفي عالمنا العربي لم تستطع الايديولوجيا القومية ان تحقق ما انجزته القومية في الغرب بالرغم من التشابه الكبير في صفات تقديس الذات وتبجيل التاريخ والاعتزاز بالهوية والامة والتراث بشكل ايديولوجي وشمولي الى حد كبير، وذلك لاسباب لا تتعلق بالايديولوجيا ومضمونها فحسب بل تتعلق بطبيعة حامليها الذين كثيرا ما يخلطون بين الوهم والواقع ويحاولون القفز على الاخير عبر احلام واوهام دونكيشوتية الى حد بعيد وهنا نقصد بالنموذج القومي في العراق الذي لم يكن يهدف الى خلق جيل قومي تقدمي متحرر الا من خلال الايديولوجيا وهذه الاخيرة تجعل العالم عبارة عن نسخ متشابهه ومتجانسة الى حد بعيد.

هذه مقدمة لموضوعنا حول علاقة الايديولوجيا بالتربية او دور الايديولوجيا في مناهجنا التربوية ، وهذه الاخيرة مليئة بالاوهام والاقنعة التاريخية التي تضفيها الايديولوجيا حول دور التراث العلمي والانساني والمعرفي بشكل يبعدنا عن الواقع ونقده ومحاولة تجاوزه، فالايديولوجيا كانت تظهر في نظام التربية والتعليم في العراق من خلال الدستور الذي حدد اهداف التعليم من خلال “رفع وتطوير المستوى الثقافي العام وتنمية التفكير العلمي واذكاء روح البحث وتلبية متطلبات مناهج التطوير والانماء الاقتصادية والاجتماعية وخلق جيل قومي متحرر تقدمي قوي في بنيته واخلاقه يعتز بشعبه ووطنه وتراثه ويتحسس بحقوق قومياته كافه ويناضل ضد الفلسفة الراسمالية والاستغلال والرجعية والصهيونية والاستعمار من اجل تحقيق الوحدة العربية والحرية والاشتراكية” (الدستور العراقي المعلن في 16 تموز 1970) والنظرة الاولى الى هذه الاهداف الظاهرة في الدستور العراقي تتحدد بالكمال من حيث النظرية واللغة، ولكن من حيث التطبيق لا تنتمي الى الواقع في شيء يذكر فالايديولوجيا القومية لا تعترف إلا بالذات مرجعا ثقافيا ولايمكن ان تتعرض هذه الاخيرة الى النقد ومحاولة تطويرها وتغييرها، وكلنا يتذكر مبدأ التنفيذ ثم النقاش الذي سيطر كثيرا على ادبيات حزب البعث في مراحل متواصلة، الامر الذي اقصى تيار الاعتدال فيه وتم تجاوز التقدمية التي كانت سائدة في شكلها الايديولوجي ايضا، بحيث اصبحت الصورة تبتعد عن العلم وتطبيقه في مناهج التربية لتحل محلها الايديولوجيا المبجلة للذات المطلقة القومية متمثلة في حروبها المتواصة، القادسية، ام المعارك، وغيرها في المناهج التربوية في مواد التربية الوطنية والتاريخ والادب والنصوص.. الخ، الامر الذي ادى الى تردي المستوى الثقافي العام وتراجع الفكر العلمي الى الاسطوري والغيبي والسحري وتخلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية وكذلك تراجع مفهوم الوطن الجامع في شكله المعرفي والثقافي وتحوله الى مجاميع من الطوائف والقبائل لم تستطع الدولة القومية استيعابها من خلال ثقافة المواطنة والاعتراف بهوياتها وثقافتها الداخلية كما هو سائد الامر لدى الدول الحديثة في الازمنة الراهنة، هكذا كان دور الايديولوجيا معمما لحقائق زائفة، وماحيا لحقائق واقعية واكيدة من خلال التستر على الفساد والجريمة التي يباشرها العقل السياسي الذي يسيطر على نظام التربية والتعليم في العراق.

دور الايديولوجيا اليوم

هل تغيرت الاحوال بعد زوال الدكتاتورية البعثية في العراق من حيث حضور الايديولوجيا في نسق التعليم وممارسة مفهوم التعمية على الحقائق والوقائع التي تحدث في عالمنا اليومي والمعاش؟

بالطبع سوف يكون جوابنا بين حدين او موقفين الاول يصرح بالايجاب من حيث ان التعليم لم يعد مؤدلجا وفقا للنموذج القومي الذي ساد في العراق، إذ بدأت هناك ايديولوجيا جديدة تدخل اليه متمثلة بالثقافة السياسية المرتبطة بالدستور الدائم الجديد تلك التي تحث او تؤمن بالديمقراطية كاطار ثقافي وانساني مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الديمقراطية لايمكن ان تتعارض مع الاسلام في شكلها وتكوينها، وذلك الامر انعكس على التربية الوطنية في مراحل دراسية مختلفة اذ يتم تدريس الديمقراطية مصاحبة للشورى او “الديمقراطية في الاسلام” كذلك الحال مع مادة الادب والنصوص التي بدأت تتخلى عن سياقاتها القومية والتبجيلية لحروب قائد الضرورة، اما الموقف الثاني فانه يصرح بالنفي من حيث حضور الايديولوجيا في اشكالها الدينية التي تتصارع على مناهج التربية والتعليم وظهور المدارس التي تدعمها الاوقاف الدينية، فضلا عما تبقى من الثقافة القومية في مادة التاريخ تلك التي تظهر البطولات والثورات العربية واثرها في محاربة الاستعمار.

ان دور الايديولوجيا في مناهج التربية والتعليم ينبغي له ان يقصي الجانب التبجيلي المطلق لدى الذات ويحاول قدر الامكان ان يتبع الحاضر الاجتماعي والسياسي ولا يقفز على الوقائع والاحداث، بحيث لو تصورنا ان يكون للايديولوجيا دور فليكن مرتبطا بالعلم على سبيل المثال من خلال ترغيب الطلبة بالعلم ومحاولة وصف الذات العربية الاسلامية ليس بالكمال المطلق فحسب بل تصورها في وضعها الطبيعي ذلك الذي يشهد التخلف والتراجع عن الحضارة والتقدم البشريين، بالرغم من صعوبة ذلك الامر، وذلك بسبب ان مؤسساتنا التربوية تظل مرتبطة بالسلطة السياسية ومرتبطة بالدولة ايضا، ولا يمكنها ان تشهد الانفصال عنها “اي السلطة السياسية وليس الدولة” من حيث الجوانب الابداعية والتطويرية لطبيعة النص التربوي، فكلما كانت الذات بلا ايديولوجيا مطلقة كلما كانت اكثر حرية في التعرف على الواقع ضمن صورته الحقيقية وليس ضمن صورة الاوهام التي تريد ان تكسبها الايديولوجيا لدى الاجيال الجديدة الصاعدة.

ان امكانية ابعاد الايديولوجيا في شكلها الشمولي الذي يضفي الجمود على الحياة الاجتماعية والثقافية عن نسق التعليم يحتاج الى تحقيق مجموعة عوامل تتمثل في:-

1- العمل على دراسة واقع التربية والتعليم في الازمنة الدكتاتورية وكيف اخذت الايديولوجيا نصيبها منه بحيث استطاعت ان تلغي الجانب التنويري والابداعي فيه (وهنا نشير الى الكم الهائل من الدراسات المخالفة للايديولوجيا القومية تم اقصائها وطردها من مجال التعليم والدراسات العليا في الكثير من الجامعات العراقية لانها لا تتفق مع ايديولوجيا الدولة فضلا عن تحديد دور الباحثين في الكتابة والدراسة والابداع.. الخ) من حيث القدرة على خلق صفات النقد والمبادرة والمسائلة سواء داخل المؤسسات التربوية من قبل القائمين عليها او من خلال المؤسسات الجامعية والبحثية في العراق، فدراسة اثر الايديولوجيا يمكننا من الوقوف على الحاضر ايضا ما دام الاخير يتيح الحرية في البحث والابداع والتاسيس المستقبلي، بالرغم من ان التعليم ضمن مبادئ الدستور الدائم غابت عنه صفة الحرية بالمعنى الذي يتيح التحول والتجديد كما هو الامر معمولا لدى الدول الحديثة وكما الامر في حالة لبنان على سبيل المثال (يشير الدستور اللبناني الى ان التعليم حر مع امكانية ان يكون للطوائف حقوقها في انشاء مدارسها الخاصة، وهنا يكون التعليم اللبناني ليبراليا من حيث التنوع والتنافس وحاملا لمبدأ التعددية في مرجعية التعليم كما يرى ذلك الامر ناصيف نصار، وهي في النهاية اي مرجعية التعليم مرتبطة بالانظمة العامة التي تصدرها الدولة).

2-  العمل على تطوير جانب الحرية في المؤسسات التربوية والتعليمية، تلك التي تجعل المعلم او الاستاذ الجامعي يمتلك المزيد من الحرية في النقد الاجتماعي والثقافي، وتداول المزيد من الاراء المختلفة والمتصارعة بشكل سلمي بعيدا عن الرجوع الى الايديولوجيا الشمولية الاقصائية التي نجدها عند المجتمع الجماهيري اكثر مما هي سائدة وسط المجتمع الاكاديمي والجامعي، وكل ذلك مرتبط بتطوير بنية التربية والتعليم وجعلها اكثر حرية في التحول والانتقال من شكل الى اخر بما يخدم العملية الثقافية والاجتماعية لمجتمع متحول ومتغير على صعيد المستقبل. 

 

 

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.