منهج التربية عندالصادق

بالرغم من عدم الاستقرار الذي أحاط بحياة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) 80- 148 هـ سواء في الفترة التي عاشها في ظل الدولة الأموية، أو تلك الفترة التي عاشها في ظل الدولة العباسية إلا أن من بين التراث الذي ينسب إلى الإمام ما يدل بشكل قاطع على تمكنه وامتلاك رؤية ثاقبة في الميدان الأخلاقي والتعليمي، وهذه الرؤية التي يمكن التعرف على جوانبها من بين حكمة الإمام وتوجيهاته يمكن أن يتولد معها منهج تربوي مستقيم يعبر عن فكر الإمام الذي يمكن رؤية بعض أهدافه التربوية في الدعوة إلى وجوب :

معرفة الله حق المعرفة، بالوقوف على ما أمر به وما نهي عنه، وما يترتب على ذلك من التزام وإخلاص وتوكل على الله، وإلى ضرورة التربية الخلقية والالتزام بمكارم الأخلاق وترجمتها في سلوك فعلي في حياة الإنسان، إذ لا معنى للخلق بدون عمل .

التربية العقلية، وتدريب حواس الإنسان وعقله حتى ينمو نموا متدرجا وينتقل من الجهل إلى العلم والتصرف، وذلك بدراسة العلوم الشرعية وكذلك العلوم الكونية .

التربية البدنية، وتدريب الجسم حتى ينمو متدرجا، وينتقل إلى تمام الإدراك والحركة الفاعلة .

التربية العلمية، تدريب الإنسان في سبيل استغلال الأشياء استغلالا يتوافق مع طبائعها ومع تحقيق مصلحته .

التربية على أحكام الشريعة، والالتزام بأوامرها وتحقيق التقوى والورع ، ومداراة الناس .

التربية الاجتماعية، بحيث يتدرب الإنسان على العيش مع غيره من آباء وأقارب وعلماء ورجال، وسلطان .

التربية على التعايش مع الابتلاء، والتأدب بأدب الله معه، كالصبر .

إن هذه الأهداف هي التي تبرز واضحة في تراث الإمام من خلال توجيهاته، إنه رضي الله عنه، في مجال الاهتمام بتربية الطفل وضرورة رعايته، بولي تربية الأطفال والناشئة أهمية بالغة، خاصة في ضوء معطيات عصره، وفي ظروف كظروف البيت العلوي لا بد من الاهتمام بتربية النشء والعناية بهم، ومن أجل هذا نراه يسوق كثيرا من الأقوال المعبرة والنصائح البالغة، وينصح بحب الصبيان ورحمتهم والوفاء بالوعد لهم، ويرى أن سن التعليم هي سبع سنين (الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلم الكتاب سبع سنين، ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين)(1)، ويقول (دع ابنك يلعب سبع سنين)(2)، وهذا الذي يقوله ردده كثير من علماء الإسلام، فهو لم يخرج عن الجو الإسلامي العام، ويوصي الآباء بحب أبنائهم (إن الله عز وجل ليرحم الرجل لشدة حبه لولده)(3). ويوصي بالمبادرة بتنشئة الأولاد تنشئة صالحة، وينصح ابنه قائلا :(يا بني إن تأدبت صغيرا انتفعت كبيرا، ومن عني بالأدب اهتم به، ومن اهتم به تكلف علمه، ومن تكلف علمه اشتد في طلبه، ومن اشتد في طلبه أدرك منفعته)(4) . ومن جملة هذه النصائح والوصايا يتبين ما يأتي:

أهمية تربية الطفل والعمل على تأديبه ، وإسداء النصح له .

أهمية اللعب في حياة الطفل، وترك الطفل ليلعب سبع سنين أمر له أهميته في تنمية قدرات الطفل ومهارته، كذلك يستفاد من توجيه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): أهمية توليد الشعور بالمسؤولية الشخصية لدى الطفل، وإحياء روح الاستقلال لديه. وذلك من الأهمية بمكان في فكر الإمام .

تنمية روح الاعتماد على النفس، والجد في أداء الواجبات .

والإمام الصادق (عليه السلام) يلفت النظر إلى أهمية تربية الطفل على مبادئ الإسلام الصحيحة في عصر كان شبيها بعصرنا مزدحما بالأفكار والنظريات والمذاهب الصحيحة وغيرها، ومن ثم لا بد من تحصين الطفل ضد المذاهب غير الصحيحة، وبذلك يضمن إيجاد وتكوين رجال أصحاء جسديا وفكريا وعقيديا. هذا ولا يغفل الإمام الصادق (عليه السلام) الجانب التعليمي أو ما نسميه بالمنهاج الدراسي .

فمن خلال ما قال الإمام الصادق (عليه السلام) يمكننا أن نذكر رأيه في المنهاج الدراسي والذي يقسمه إلى قسمين كبيرين هما :

العلوم الدينية: وتشمل علوم القرآن وعلوم الحديث، فقد كان الإمام الصادق (عليه السلام) صاحب مذهب فقهي اعتمد أصوله من القرآن والسنة ، ولذا كان لا بد من الإلمام بعلومهما ومعهما علوم اللغة العربية، وكان يروي الحديث والسنن ويتحرى صدقها، وروض أصحابه على التماس أصلها من القرآن الكريم (5) .

العلوم الدنيوية: لقد وضع الإسلام قواعد الانطلاق في العلوم الدينية والدنيوية، وشهد عهد الخليفة عمر بن الخطاب بوادر نقل تلك العلوم، ثم استمر ذلك حتى جاء عصر الإمام الصادق (عليه السلام) فكانت توجيهاته نافعة في الانفتاح على علوم الآخرين، وقد اتسع فهمه حتى إنه قال :(لا يستغنى أهل كل بلد عن ثلاثة يفرغ إليهم في أمور دنياهم وآخرتهم، فإن عدموا ذلك كانوا همجا، فقيه عالم ورع، وأمير خير مطاع، وطبيب بصير ثقة)(6) .

وانطلاقا من هذا ، اهتم الإمام الصادق (عليه السلام) بالعلوم الكونية والكيمياء ودرسها واستوعبها، ونال فيها شهرة واسعة بين معاصريه، ولعل هذا كان من أهم الدوافع التي حدت بجابر بن حيان أن يتتلمذ عليه (7). وقد اهتم الإمام الصادق (عليه السلام) بتعليم مادة الكيمياء لما رأى لها من أهمية وفائدة كبيرة، وقد ساعد هذا على تخليصها من الأساطير والأوهام التي علقت بها، وكانت للصادق (عليه السلام) منهجية في مدرسته التي قادها في العلوم الطبيعية، وتمثلت هذه المناهج في: علوم الفلك، ووظائف الأعضاء والنبات، والفيزياء، والكيمياء ، وعلوم الصنائع (8) .

واللافت للنظر حقا هو صيغة التكامل والشمول التي تميز بها الإمام الصادق (عليه السلام) في تناول العلوم الدينية والعلوم الدنيوية، وعدم الفصل بينهما، حتى إنه يجعل منزلة الأمير والفقيه والطبيب واحدة، ويستخدم نتائج العلوم الطبيعية للاستدلال على عظمة الإله وقدرته، وفي التدليل على صدق التبليغ عنه .

هذا وتستوعب مجالات التربية عند الإمام الصادق (عليه السلام) كثيراً من ميادينها إن لم تكن جميعها ويمكن النظر إلى مجالين عند الإمام الصادق (عليه السلام).

الأول : التربية الدينية والخلقية :

تدل أقوال الصادق (عليه السلام) على حرصه على تربية تلاميذه على أمور الدين، وقد كان الصادق (عليه السلام) شيخا لكل من مالك وأبي حنيفة، مما يدل على سعة علمه الديني، وقد اهتم بسلوكيات تلاميذه، مخلصا إياهم من النزعات الضالة والتطرف والتعصب البغيض، ويضرب لهم المثل القدوة من أخلاقه وفكره، وإلى جانب هذا خاض مناظرات علمية لإثبات وحدانية الله وقدرته وعلمه وحكمته.

ويتضح اهتمامه بالتربية الدينية والخلقية من أقواله ووصاياه ، يروي عنه الأصمعي ، يقول :

(الصلاة قربان كل تقي، والحج جهاد كل ضعيف، وزكاة البدن الصيام، والداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر، واستنزلوا الرزق بالصدقة وحصنوا أموالكم بالزكاة)(9). وينصح ابنه قائلا: (كن للقرآن تالياً، وللسلام فاشيا، وللمعروف آمرا، وعن المنكر ناهيا، ولمن قطعك واصلا،  ولمن سكت عنك مبتدئا، ولمن سألك معطيا، إياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في القلوب،  وإياك والتعرض لعيوب الناس، فمنزلة المتعرض لعيوب الناس كمنزلة الهدف) .

وفي هذا المجال ينصح بنصائح غاية في الأهمية تدخل في مجال الأخلاق الإسلامية ، منها على سبيل المثال: (ما عال من اقتصد، والتدبير نصف العيش، والتودد نصف العقل، وقلة العيال احد اليسارين، ومن احزن والديه فقد عقهما ومن ضرب على فخذيه عند مصيبته فقد حبط أجره، والصنيعة لا تكون صنيعة إلا عند ذي حسب ودين، والله تعالى ينزل الصبر على قدر المصيبة، ونزل الرزق على قدر المؤونة، ومن قدر معيشته رزقه الله تعالى، ومن بذر معيشته حرمه الله تعالى)(10). وعنه : (لا زاد افضل من التقوى، ولا شيء أحسن من الصمت، ولا عدو أضر من الجهل ، ولا داء أقوى من الكذب) (12) .

وإلى جانب هذا ينهي عن الخصومة في الدين ويدعو إلى الاعتدال في العبادة ويدعو إلى الالتزام بالأخلاق الحميدة وألا يذل الإنسان نفسه لأحد .

ومن مجموع النصوص يتبين ان الرجل استهدف من بين ما كان يريده اهتمامه الرجل بتربية أتباعه تربية دينية، سواء بالتعاليم أو بالنصيحة واهتمامه بتربية الوازع الداخلي وتنمية الحرص على أداء الفرائض .

واهتمامه بإبعاد أتباعه بالتربية عن الخصومات الدينية التي تورث النفاق والشقاق .

واهتمامه بالممارسات العلمية لشعائر الدين، حتى لا يصبح مجرد شعارات واهتمامه بتربية الأفراد على مكارم الأخلاق .

واهتمامه بتربية الأفراد على احترام الناس، ومخالطة العلماء، وتجنب مداخل السوء، وعدم الدخول فيما لا يعني، وغير ذلك من الوان التربية السلوكية .

واهتمامه بتربية الإنسان على قول الحق أيا كان، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

واهتمامه بتنمية الحرص على كتاب الله ومداومة تلاوته عند الأفراد .

واهتمامه بتنمية الأفراد على خلق إفشاء السلام، والالتزام بالآداب الاجتماعية .

وجماع معالم هذه التربية يتمثل في التقوى، وتنمية الإنسان الصالح، دينا وخلقا واجتماعا، ومعاشرة ليعيش حياة دنيوية سعيدة بين الناس، ويتجنب مهاوي الهوى والرذائل، ويستعد لسعادة حقيقية في الآخرة .

الثاني : التربية العلمية والفكرية :

إن ملامح هذا المجال من التربية تتضح من خلال أخباره فيما كتبه جابر بن حيان، ويمكننا تبين هذه الملامح فيما يأتي :

الإيمان بالعلم، وأهميته، وإدراك أهمية التعليم وإدراك أهمية التوجيه العلمي والفكري من الأستاذ المعلم للمتعلم ، وكذلك أهمية وجود التعاطف بين الأستاذ والتلميذ ، وأن يكون التلميذ لينا قابلا لجميع أقوال أستاذه .

وأهمية إقبال المتعلم عن الأستاذ إقبال شغف، وان يحفظ أستاذه، ويترك الكسل والتشاغل عنه.

أهمية قيام العلم والتفكير العلمي على أساس عقلاني ، ومع توافر المعرفة بخواص الأشياء، كذلك لا بد من توافر الموضوعية في الدراسة العلمية، ولا بد كذلك من تبسيط العلم وتسهيله  وعدم الإغراق في الرمزية، وتجنب الإطناب الذي يفسد الموضوعية، كذلك تتجلى عنده أهمية إجراء التجربة العلمية بموضوعية .

لقد كان الإمام الصادق (عليه السلام) يدرب طلابه على إجراء التجارب إلى جانب ما سبق، وله في ذلك شروط أوضحها جابر في نصوص له ، تدل على شمول نظرة الصادق (عليه السلام)، وتكاملها وربطه بين العلم والدين، وتأكيده على أهمية إخلاص العمل لله، والتوجيه له بالدعاء لتحقق الفائدة، ولذا نراه ينصح جابر حين يريد الإقبال على التجربة وتحصيل العلم، بالوضوء والطهارة، والصلاة والاستخارة ،والدعاء والتصدق، ويحترم نصيحته له بقوله: (فإن الله تعالى يحمدك العاقبة في سائر أمورك ويزجر الشيطان عن وجهك، واقصد لما تشتهيه ؛ فإنك ترى فيه الرشد... ويرزقك الله قريبا إن شاء الله) (12) .

______________

1ـ محمد تقي (الطفل بين الوراثة والتربية) . تعريب وتعليق فاضل الحسين الميلاني جـ 1/طبعة ثالثة – بيروت – مؤسسة الأعلمي بدون تاريخ صفحة 12.

2- المرجع السابق ص 75 .

3- المرجع السابق ص 146.

4- المرجع السابق ص 261.

5- محمد أبو زهرة (الإمام الصادق – حياته وعصره) القاهرة – دار الفكر العربية ، ص 22.

6- محمد تقي فلسفي (الطفل بين الوراثة والتربية) مرجع سابق ، جـ 2/75.

7- عبد الله الرفاع (إسهام العرب والمسلمين في الكيمياء) مؤسسة الرسالة عام 1983، ص103.

8- عبد القادر محمود (الإمام جعفر الصادق رائد السنة والشيعة) القاهرة ــ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية – القاهرة بدون تاريخ ص 13.

9- الذهبي (سير أعلام النبلاء) جـ 6 ، ص 261 .

10- أبو نعيم (حلية الأولياء) جـ 3 ، ص 263 .

11- الذهبي (سير أعلام النبلاء) مرجع سابق ص 163

12- زكي نجيب محمود (جابر بن حيان) رقم 3 سلسلة أعلام العرب – بيروت – المركز العربية للثقافة والعلوم بدون تاريخ ، ص 87 .

 

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.