منهل العلم وينبوع الفضائل

كان مع السبايا التي حُملت إلى الشام بتلك الصورة المفجعة التي قال عنها والده الإمام السجاد(ع) مخاطباً ليزيد: (ما ظنك برسول الله لو رآنا بهذه الحالة) عندئذ أمر يزيد بالحبال أن تقطع وقد كان الحبل ممتداً من عنق الإمام السجاد(ع) إلى عنق الحوراء زينب عليها السلام.

ولم تنتهِ المأساة التي رآها إمامنا الباقر(ع) فقد عاش مع والده (39) سنة، وكانت سنين في غاية الصعوبة من حيث الحكام الظلمة من بني أمية والولاة الذين كانوا على المدينة من قبلهم كالحجاج وأمثاله ومن حيث خوف الناس وابتعادهم عن أهل البيت عليه السلام حتى جاء في بعض الروايات: (لقد ارتد الناس بعد مقتل الحسين عليه السلام إلاّ ثلاثة)، ومن جهة ثالثة ينظر إلى أحزان أبيه ودموعه التي تسيل على خديه وهو أحد البكائين الخمسة في بني آدم، ولم تقف عند هذه السنين معاناته فقد جاء بعدها دور إمامته والتي بدأت بشهادة الإمام السجاد(ع) على أيدي بني أمية والتي كانت غصة مع تلك الغصص التي في صدره والتي لم تذهب مرارتها من بين لهاته.

ومعاناة الإمامة أكثر من غيرها وهي الأمانة الكبرى التي لم تتحملها السموات والأرض وهي الثقل الكبير وقد استمرت في عنقه ثمانية عشرة سنة إلى سنة (114) ليؤديها إلى ولده الصادق(ع) بعد أن صانها كما أراد الله عزّ وجّل ولم يغمض عينه أو يغفل لحظة عندها إلاّ لحظة فارقت روحه بدنه بعد أن سقاه الظلمة السم في شهر ذي الحجة من تلك السنة، فأودعها عند بضعته وولده .

إن دراسة حياة أهل البيت عليه السلام في غاية الأهمية لاسيما للإنسان المسلم والموالي التابع والأهمية تأتي من خلال ما يحصل للإنسان من همة وشجاعة في مواصلة درب الحق، فحين نرجع إلى حياتهم نجد أن الغربة والوحدة وقلة الناصر وكثرة الواتر وإمعان الظلمة في إيذائهم وصدهم، ونجد أن حياتهم مليئة بالأحزان والأشجان والهموم بمختلف أشكالها وتعدد مصادرها وأصولها، ولكن مع هذه الغربة ومع تلك الأحزان نجد أن ذلك لم يثنيهم ولم يقعدهم ولم يسكتهم فقد ملأوا الدنيا مفاخر ومحاسن، بل كانوا مع وحدتهم والأعداء مع كثرتهم وكل شيء بأيديهم نجد أن الخوف قد ملأ قلوب الأعداء منهم فلا يهنؤون بطعام أو منام ويقولون كيف يقر لنا قرار وفي حكومتنا أمثال هؤلاء، بل كانوا يخافون من تلامذتهم وأتباعهم فضلاً عن الخوف منهم، وتلك الأحزان والأشجان لم تغير من أخلاقهم شيئا فتجد الحلم على أكمله، والكرم على تمامه، والصدق على هيئته وهكذا باقي صفاتهم.

ولا يمكن التعرض إلى جميع جوانب حياة الإمام الباقر عليه السلام تحت هذه الأسطر وإنما سوف نسلط الضوء على نقطة مهمة يبحث عنها الإنسان الباحث عما يسعده في آخرته، وهذه النقطة هي ما تمتع به زمن الإمام عليه السلام من أصحاب أوفياء كانوا موضع رضاه ومحط مديح الإمام الصادق(ع) حتى قال عنهم:

(لقد كان أصحاب أبي ورقاً لا شوك فيه وأنتم شوك لا ورق فيه).

وهؤلاء كانوا موضع تسلية الإمام عما يصيبه من هموم وأحزان، وإذا نظر إليهم انجلت همومه، لأن أهل البيت عليهم السلام يفرحون حين يجدون في الأرض من يعبد الله ويطيعه ويعظّمه وبالعكس يألمون حين يرون الناس قد ابتعدوا عن الحق، ولذا يقول عزّ وجّل مخاطباً لنبيه(ص): (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)(الكهف/6).

ودراسة حياة هؤلاء وما كانوا عليه مع إمام زمانهم لينقله الإنسان في حياته مع إمام زمانه عجل الله فرجه الشريف والذي همومه لا توصف ولا تقدر بقدر، فلقد زادت على أحزان آبائه عليهم السلام، ولا نريد أن نبحث كيف تعامل معهم الإمام عليه السلام حتى أوصلهم إلى هذه الحالات وإنما نريد أن نشير إلى الحالات التي عاشوها والصفات التي اتصفوا بها والتي جعلتهم (ورقاً لا شوك فيه) أي أنهم زين كلهم والنظر إليهم يجلوا البصر، ولا يوجد فيهم إيذاء، ولا يصدر منهم ما يوجب الهم والغم، وقد ورد في حقهم من المديح على لسان الإمام الصادق عليه السلام الكثير، وصدر لهم منهم عليه السلام ضمان بالشفاعة والجنة يوم القيامة، ولو كان في صفوف الشيعة الكثير من هذه الثلة والصفوة لما ضاع الحق ولما تمكن الظالمون من إشاعة الجور والفساد، ولما بقيت تلك العلوم التي في صدور المعصومين عليه السلام أسرارا وحُرمت منها الإنسانية التي لا تدري عن الحقيقة إلا الشيء القليل.

اهتم الإمام الباقر(ع) بتشخيص هوية الجماعة الصالحة، وتمييزها عن غيرها من الهويات التي ترافق سائر الوجودات والكيانات والتيارات القائمة في الواقع .

وقد كان للجماعة الصالحة وجود مميّز من حيث الاسم والصفات ومن حيث الولاء والاقتداء، ومن حيث التقييم والدرجة والمرتبة من بين الدرجات والمراتب، فهي تنتمي إلى الإسلام أولاً والى منهج أهل البيت ثانياً. وتشخيص الهوية له آثار إيجابية على تجذر الانتماء وإدامته، وله آثار عملية على الأفكار والعواطف والممارسات السلوكية، حيث إنها تتبع الانتماء، وتتحرك على ضوء الأهداف المحدّدة للهوية المشخصة، ومن هذه الآثار:

1- الشعور بالانتماء وهو أمر فطري يدفع الإنسان للاعتزاز بانتمائه، لأنه يشعر بأن شخصيته ووجوده يحددها الانتماء والهوية الظاهرة .

2- إن لتشخيص الهوية دوراً كبيراً من وحدة الأهداف ووحدة البرامج، ووحدة المصير، ووحدة المصالح، ولهذه الوحدة دور أساسي في تحريك المنتمين إلى العمل الجاد والحركة الدؤوبة لتحقيق الأهداف المنشودة والتضحية من أجلها.

3- إن لتشخيص الهوية دوراً  كبيراً في تعميق علاقات الاُخوة داخل الجماعة الصالحة، ودفعها نحو التآزر والتكاتف والتعاون من أجل رفع مستواها الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، كما يمنحها القوة والمنعة والعزّة.

4- إنّ تشخيص الهوية والشعور بالانتماء الموحد يدفع الحركة باتّجاه توسيع قاعدتها الشعبية على أساس تقوية مظاهر الهوية في الواقع الموضوعي ويدفعها نحو التنافس المشروع مع الوجودات القائمة لربط بقية أفراد الأمة بالمفاهيم والقيم الصالحة ، وتجسيدها في الواقع .

وختاما نذكر إضاءات هادية من كلمات الامام الباقر عليه السّلام:

 الكمال كلّ الكمال: التفقّه في الدِّين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة.

ثلاثة من مكارم الدنيا والآخرة: أن تعفوَ عمّن ظلمك، وتصلَ مَن قطعك، وتحلم إذا جُهِل عليك.

الکلمات الرئیسیة: 

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.