اللغة ودورها في النسيج الثقافي والفكري والمعرفي

 والتآكل عملية إفناء ذاتية، تقضي على عوامل البناء والحياة، بسبب تضاؤل القدرة على المقاومة، ومن باب أولى القدرة على الإبداع والإنتاج.

والتآكل في التعريب راجع في الأساس إلى اعتبار لغة الضاد، لغة كاملة مثلى، ولا يعمل الزمن فيها إلا على إضعافها، والانتقاص من قوتها، ومن المفيد في هذا المقام، أن نذكر بالفترة الزمنية التي حددها اللغويون القدامى إبان التأسيس لعلوم اللغة، في مائة وخمسين سنة قبل البعثة، ومثلها بعد البعثة، لتكون القاعدة الأساس، المعتد بها كإطار مرجعي للغة النسقية.

وقد أثرت هذه الخلفية الإبيستيمولوجية على المشتغل باللغة، وبالتعريب خصوصا، حيث تم التركيز على إيلاء الأهمية القصوى لقدرة اللغة العربية على تلبية حاجات المستجدات المصطلحية في مختلف العلوم، وهو جانب لا تخفى حساسيته وأهميته وخطورته، غير أن الاقتصار عليه لا يمكننا من تجاوز الحدود المعجمية والتركيبية والتأليفية، علما أنها نتائج لمراحل منهجية سابقة لها.

 ويمكن تلخيص هذه المراحل في محطتين كبيرتين:

الأولى: اعتبار اللغة العربية كائنا حيا، له حركيته في التاريخ بما يقتضيه ذلك من تفاعل إيجابي مع مفعول الزمن، بغض النظر عن الفترة التي تم تحديدها سلفا، دون أن يعني ذلك الوقوع في «ردة معجمية» تنكر تلكم المقاييس التي اعتمدت في حينها، بل اعتبارها مرحلة هامة وأساسية، ولكنها ليست نهائية.

 الثانية: الاشتغال على تمكين اللغة العربية من أدوات تنظيرية قياسية اطرادية، حيث لا تكون خاضعة لضغط السماع وتأثيراته، ولا إلى مزاحمة العلوم المهتمة بدراسة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من زاوية إضفاء روح القداسة على الأحكام اللغوية كما هي في العلوم الشرعية.

إن تحرر اللغة العربية من وضعية الرف الحامل للأشياء النافعة، إلى كائن نافع أو منتج للنفع، سيبعث فيها من جديد روح الحياة والإضافة التي كانت تتمتع بها إبان مرحلة التأسيس والازدهار، مرحلة كان فيها العرب قادرين، وبجدارة، على تحقيق مزاوجة تكاملية وقوية ومنتجة بين بناء ثقافي وفكري ذي إشعاع عالمي، مازالت آثاره تدرس في جامعات الدنيا، وهو بناء قائم بالأساس على اللغة العربية وباللغة العربية، وبين انفتاح مبهر على نتاج الحضارات والثقافات المختلفة، فتحقق لهم بذلك أمران هامان على الأقل:

 أولهما: رفع المستوى الإنتاجي للغة العربية ونقلها من خصوصية شعرية أدبية فقط، خاصة بعد أن بلغ العرب الشأو العظيم في قرض الشعر وفنون القول، إلى قدرة توليدية خلاقة استوعبت كل علوم العرب من فلك وطب وفيزياء ورياضيات وصيدلة وكيمياء وهندسة وموسيقى وأدب وعلوم شرعية...

ثانيهما: الاستعداد القوي لاستيعاب الآخر، والانتفاع بإضافاته الفكرية والمعرفية بلغة عربية قياسية، وذلك بإخضاع المقترض من المصطلحات إلى مقاييس اللغة الصرفية والصواتية والتأليفية، فتصير مصطلحات معربة منسجمة مع النسق اللغوي العربي القياسي.

ولا شك أنه كان تحديا كبيرا، استطاع العرب أن يرفعوه بلغتهم الخاصة، حينما فقهوا ضرورة تمثل اللغة لمجالات البناء والنفع في حياة الإنسان.

لقد كان منطلق هذه المنجزات قاعدة نظرية قوية حول اللغة ودورها في النسيج الثقافي والفكري والمعرفي، ولم يكن بد من إفراز اجتهادات لغوية رائدة قدمت صورة متكاملة عن اللغة، ابتداء من تنوع الآراء حول منشأ اللغة العربية، مرورا بالاختلاف حول طرق اكتسابها وتمثلها، ووصولا إلى غنى التطبيقات النسقية لواجهاتها النحوية والصرفية والصوتية والدلالية والتألفية والتركيبية.

والملاحظ أن كل محطة من محطات تناول الظاهرة اللغوية، قد حظيت بآراء مختلفة واجتهادات متنوعة، وأحيانا متناقضة وهو دليل واضح على حيوية التنظير اللغوي واتساع آفاقه.

لقد اتضح مما سبق، أن مجالات تطوير الذات التواصلية يتنازعها، على قاعدة التكامل، عالمان فسيحان وغنيان، اللغة والتواصل، وحيث إن الفعل الإنساني في التواصل يوسم بالرمزية التوليدية التي تعكس القدرة الذهنية المتجددة باستمرار، فقد كانت اللغة الوسيط الأنسب للتعبير عن هذه العلاقة ذات التسلسل اللا نهائي.

الکلمات الرئیسیة: 

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.