جمال القرآن اللغوي.. قمة الإعجاز

لكي تكون المعجزة بيَّنة لابدّ أن تأتي بما برع فيه القوم. فقد برع بنو إسرائيل بالسحر ومارسوه، فإذا بموسى(ع) يرمي بعصاه لتلقف ما يأفكون، وأخرج يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين، وضرب بعصاه الحجر فانفلق منه الماء، وضرب بها البحر فانفلق، وكان كلُّ فِرْقٍ منهما كالطود العظيم.

ولمّا برع قوم عيسى(ع) في الطب وعلومه، جعله الله يُحيي الموتى بإذنه ويبرئ الأكمه والأبرص، وغير ذلك من المعجزات الطبيَّة البيِّنة.

أمّا العرب فقد نبغوا في فنون الأدب؛ شعره ونثره وسجعه، وكانوا يهتمون بالبديع والبيان، وقد اشتهروا بالفصاحة والبلاغة وجمال الأسلوب، وما كان يتقنون فناً أو علماً آخر غير الأدب. لذا جاء القرآن معجزة لغوية بَهَرت أساطينهم كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وأنيس الغفاري وغيرهم، حتى أجمع أهل العربية قاطبة وأهل اللُّسن منهم والبيان على أنّ القرآن معجزٌ بحدِّ ذاته، وأنّه معجزٌ بفصاحة ألفاظه وروعة بيانه وأسلوبه الفريد الذي لا يجاريه أسلوب لا من شعرٍ ولا من سجعٍ ولا من نثرٍ، وهو معجزٌ بسحره اللفظي الخلَّاب الذي يتجلّى في نظامه الصوتي الفريد، وجماله اللغوي، وبراعته الفنيّة، وفي قدرته العجيبة على سرد الحوادث والأخبار بأسلوب جزل مع الجمع بين أمرين أو أكثر في آن واحد.

قال الأديب الكبير طه حسين: «كانت نُظُمُ اللغة العربية قبل التنزيل شعراً ونثراً وسجعاً. ولما جاء القرآن ودرسناه بإمعان وتمحيص وجدناه فناً جديداً قائماً بذاته، وقد أخذ بألباب فصحاء العرب بعذوبته وببهائه. وبما أنّ الإنس والجنِّ عجزوا عن الإتيان بمثله وبقي غضاً طرياً ومعجزة لغويّة قائمة على مرِّ السنين، وبما أنّه لا يندرج لا تحت الشعر ولا النثر ولا السجع، لذا اعتبرناه فناً لغوياً منفرداً قائماً بذاته، فأضحى النظم في اللغة العربية على أربعة أشكال بعد أن كان ثلاثة وهي: الشعر، النثر، السجع، القرآن جمال القرآن اللغوي قمة الإعجاز.

ولقد وصل جمال القرآن اللغوي قمة الإعجاز، ولو دخله كلام من الناس لاعتلَّ مذاقه في أفواه قارئيه وفي آذان سامعيه. ولكنّه بقي وسيبقى أبد الدهر غضاً نضراً مستحباً حلواً ترتاح القلوب لسماعه وتهدأ النفوس بترديد كلماته، وبذلك سيبقى محفوظاً من العبث به ومن الإدخال عليه. وفي هذا قال ربُّ العزة والجلال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/ 9).

وبالإضافة إلى تحدِّي القرآن العربَ في لغتهم وبلاغتهم، فإنّه قد مزَّق حواجز الغيب الثلاثة:

 أ- الزمن الماضي: حيث روى حقائقَ علميَّة ثابتة عن تشكُّل السماء والأرض والكون بما فيه من كائنات حيَّة وجمادات.

ب- الزمن المعاصر: فقد مزَّق القرآن حجاب المكان، فروى ما يدور في خلد ونفوس الكفار، وما يحيكونه من مكر ومؤامرات ضد الإسلام والمسلمين دون أن يتجرأ أحدٌ منهم أن يكذِّب ما اتّهمهم به القرآن.

جـ- حجاب المستقبل: حيث نبَّأ القرآن بما سيحدث بعد شهور وسنين مثل قوله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ) (الروم/ 2-4)، وقد تحقَّقت هذه النبؤة وانتصر الروم (الكتابيون) على الفرس (الوثنيين) بعد تسع سنين من انكسارهم، رغم ضعف حال الروم بعد الهزيمة، ورغم قوة الفرس وجبروتهم.

كما مزَّق القرآن حجاب المستقبل البعيد الذي سيحدث بعد عشرات القرون، فأعطى الأجيال القادمة من إعجازه ما يجعلهم يتمسَّكون بالقرآن ويتأمّلون في آياته وعلومه وأوامره ونواهيه.

لقد ذُكرت الحقائق الغيبية المستقبلية في القرآن بأسلوب بارع جميل، مثال ذلك قوله تعالى: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (النازعات/ 30)، والدِّحْيَة هي البيضة، أي أنّه سبحانه وتعالى جعل الأرض كالبيضة، أي أنّها كروية، وهذه واقعها الذي اكتشفه العلماء في القرن التاسع عشر، وتأكّدوا منه في القرن العشرين بعد غزو الفضاء.

فلو ورد في القرآن الكريم قبل 1400 سنة أنّ الأرض كروية بهذا الشكل الصريح وأنّها تجري بسرعة هائلة وتدور حول نفسها بسرعة يصعب تخيُّلها، فإنّ الناس لن تصدِّق هذه الحقائق العلمية وستتّهم سيدنا محمّد (ص) بالجنون وسينفرون منه، وقد يعود عدد كبير ممن سبق لهم أن آمنوا عن إيمانهم لأنّهم يرون الأرض بأمِّ أعينهم مسطَّحة وثابتة لا حراك فيها.

وهناك أمثلة أخرى كثيرة عن تمزيق حجب الغيب المستقبلي.. لذا، ولحمةٍ قضاها ربّ العزّة، جاءت نتائج العلوم في القرآن فوق مستوى تفكير الناس السابقين، فلم يتمكَّنوا من تفسيرها واستنباط معانيها، لذلك جاءت تفسيراتهم مغايرة لما هي عليه في الواقع، وقد قرآ الصحابة الكرام القرآن واختلفوا في تفسير بعض آياته، وليس كلّ ما قالوه كانوا قد سمعوه عن النبيّ (ص)، والنبيّ لم يفسِّر لهم كافة آيات القرآن، وقد ترك الكثير منها غامضاً ليتفكَّروا ويتأمَّلوا ويستنبطوا ويجتهدوا في الفقه والتفسير، ودليل ذلك أنّه (ص) دعا لابن عمه عبدالله بن العباس وكان لازال طفلاً فقال: "اللّهمّ فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل".

فالتفسير يحتاج إلى تأمُّل واستنباط وفهم جيِّد للمعاني العربية بشكل دقيق، مرن، لكي يتمكَّن صاحبه من بلوغ المعنى الصحيح للآيات المعجزات الغامضات، مثال ذلك الآية (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا) (الإسراء/ 59). لقد فسّر بعض المفسِّرين هذه الآية بأنّ الناقة كانت مبصرة – أي تبصر – ولا يدرون بماذا ظلموا، وهل ظلموا أنفسهم أم غيرهم. بينما التفسير الصحيح لهذا الآية: أنّ الله سبحانه وتعالى أم غيرهم. بينما التفسير الصحيح لهذه الآية: أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى قوم ثمود معجزة واضحة – أي مبصرة – وهي الناقة التي خرجت من الجبل، لكن ورغم ذلك لم يؤمنوا بها، فظلموا أنفسهم بذبحها بعد أن نُهوا عن ذلك.

وهكذا فإنّ تفسير الآيات يحتاج إلى تبصرة وتأمُّل واستنباط ودراية بأسلوب القرآن وعلومه، ومعرفة عميقة باللغة العربية ودقائقها.

وبما أنّ هذه الشروط لم تتوفر في المفسِّرين السابقين، لذا بقي معنى كثير من آيات القرآن دون أن يُكشف عنه النقاب، حتى اتسع أفق العقل البشري في عصرنا الحالي، فأشرقت هذه الآيات لتعلن عن إعجاز جديد للقرآن ولتبرهن للناس عامّة – مسلمها وملحدها – أنّ الله حقٌّ، وأنّ القرآن حقٌّ وأنّه منزَّل من عند الله الذي لم يُعطِ علم الغيب لأحد سواه (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان/ 6)، وقال جلّ جلاله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران/ 7).

جاء النبيُّون بالآيات فانصرمَتْ

آياته كلَّما طال المدى جُدُدٌ

وجئتنا بكتابٍ غير منصرمِ

يزيِّنُهُنَّ جمالُ العِتْقِ والقِدَمِ

بقلم: د. محمد بنيل النشواتي

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.