«ديوان الامام الخميني(قدس)»

لو كان لنا أن نعرض الى واحدة من صفحات الحضارة المشرقية لبدت لنا إيران بوصفها أرض الشعراء والعرفاء. يدل على ذلك ما لا حصر له من كتب تاريخ الأدب والمدونات العرفانية المختزنة في امهات المكتبات العالمية. كما يشير الى هذا الأمر واقع تاريخي مؤدّاه أن كثيراً من الأبحاث الفلسفية والعرفانية مدين في ظهوره المعرفي الى الشعر. فعلى سبيل المثال تحضرنا منظومة السبزواري التي لا يمكن عدها نتاجاً أدبياً بقدر ما هي شرح وتظهير لنظام فلسفي اسلامي متكامل كان أطلقه الفيلسوف والحكيم الإلهي صدر الدين الشيرازي المعروف بـ «ملا صدرا» تحت عنوان «الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة». كذلك فإن أي باحث لا يستطيع أن يرى الى شعر مولانا جلال الدين الرومي مقتصراً على الناحية الأدبية من دون أن يلحظ أبعاده العرفانية والفلسفية.

وأما الإقبال الشديد اليوم على ترجمات قصائد مولانا في شتى أنحاء العالم فهو أمرٌ عائدٌ بالقطع لما تنطوي عليه من مضامين عرفانية وإنسانية عميقة المعاني والدلالات.

سوى أن ما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال، هو أننا قلیلاً ما نجد بين علماء الأخلاق والمفكرين من يمتلك بعداً سياسياً واجتماعياً بالإضافة الى الأبعاد المعنوية العالية والسلوك الأصيل. وهو الأمر الذي سنجده بوضوح في المنهج المعرفي الجامع للإمام الخميني. فقد دلت أعماله وكتاباته على الجمع الخلاّق بين الحكمة النظرية والعلوم العقلية والنقلية ناهيك عن أعماله الإبداعية في مجال العرفان والشعر والأدب. ومع أن الامام الخميني يمتلك بعداً سياسياً واجتماعياً، إلا أنه في سيره العرفاني وسلوكه بدا بعيداً عن التعلق بهذا العالم. لذلك تسنى له أن يصبح رمزاً للعرفاء الواصلين وتمام السالكين وأصحاب القلوب الوالهة في زماننا المعاصر. ولهذا يمكن القول إن من الخصائص التي بقيت مجهولة عن الإمام هو الوجه العرفاني والأدبي لشخصيته.

قد يُفاجَأ القارئ بأن الامام الخميني الذي قاد ثورة شعبية شاملة في ايران كان يكتب الشعر على الرغم من انشغاله بالسياسة قبل المنفى وبعد العودة الى بلاده. فلقد أهتم الإمام بالشعر، اضافة الى رسالته العملية وبحوثه الفقهية التي نال عليها درجة الاجتهاد، وتتجاوز السبعين مؤلفاً. كان شاعراً شأنه شأن كبار شعراء التصوف، يتغزل بالمحبوب ويرجو وصاله. ومن الواضح تماما أن هذا المحبوب لم يكن سوى الرب تعالى، وان التفاصيل الجسدية التي يجري التغزل بها إن هي إلا رموز مقصودة؛ وأن الاماكن التي يتردد ذكرها في اشعاره انما يراد بها عالم اللاهوت.

كان شغف الإمام الخميني بكتابة القصيدة الصوفية جلياً منذ شبابه. والأشعار التي سجلت باسمه في الديوان هي من الأشعار الناضجة المشحونة بالمناخات العرفانية والمفاهيم الفلسفية. إلا أن ما يبدو بوضوح، هو انه لم تتوفر فسحة أوسع لأنتشار أعماله الشعرية الاّ بُعيد وفاته. ولنا ان نفترض ان مشاغله ومهامه الجسيمة، بحكم كونه مؤسس الجمهورية الأسلامية، وقائدها ومرشدها. . . قد جعل تلك القصائد العذبة تنأى إلى الظل طويلاً. بيد انه في السنوات الأخيرة أخذت تتلمس طريقها الى القرّاء، وتترجم الى لغات متعددة. فقد تَرجم بعضها الى اللغتين الصينية والهندیة، كما تَرجمت مئة قصيدة غزلية الى الأوزبكية، فضلاً عن ديوانه المعروف بـ (ديوان الأمام الخميني) الذي ترجم الى العربية في مصر.

تأثره بالميراث الصوفي

ما من شك في تأثر الإمام الخميني بشعراء الصوفية الكبار. ولقد كان تأثير الشاعر الإيراني شمس الدين حافظ الشيرازي حاضراً في قصائده، حيث أورد تفسيراً لبعض مصطلحاتهم ومنها «الخمر» التي يراد بها -حسب قوله- غلبة الشوق. وعلى ما يبيِّن في كثير من كتاباته انه «حين يغلب الشوق والوجد والحال بسبب تجلي المحبوب الحقيقي وقت غلبة المحبة على قلب السالك يفنى السالك ويغيب عن وعيه».

وأن ألفاظاً مثل الكأس والقدح والحانة والخمارة تشير إلى ابتغاء المحبوب ومشاهدة الأنوار الغيبية في قلب السالك. وهو ما نجده في قصيدتي «حسن الختام» و«عيد النيروز». ومن إحداهما نقتطف هذا المقطع الذي يدنو الى حد بعيد مع مناخات الشاعر الصوفي الكبير عمر الخيام:

لقد ناء الصوفي والعارف من هذه البيداء

فاحتسِ الخمر من المطرب فهو هاديك إلى الصفاء

وإن أرشدتني إلى باب شيخ الحانة..!!!

فلأسلكنّ الطريق إليه لا بقدمي بل برأسي وروحي​

ورغم تكرار عبارات العشق والحب في قصائد الامام، فإن روح المعلم والمربي والمرشد تبقى لها الغلبة عليها. تعليقاً على ذلك، كتب الدكتور علاء الدين منصور في مقدمته للديوان المنقول الى العربية ان الامام لم يكن ليهتم بأن يكون شاعراً محلقاً يمتهنُ الشعر فناً ومذهباً ومكسباً، بل كان الشعر بالنسبة إليه مجرد معبر لإجلاء أفكاره الصوفية والعرفانية بعد خلوته لشهود الله وذكره والتفكر في اسرار الكون. وهكذا وجد فى الشعر راحة وسلوى روحية بعد فراغه من مهمات الامامة، وبلاءات السياسة ونكبات الرئاسة، خاصة انه كان ينظم الشعر بسلاسة دونما تعمق فی صياغته وصناعته او احتراف فی توشيته وتعقيده. ولذا فقد جاء شعره سهلاً بسيطاً مع عذوبته وجرسه وموسيقاه. وهناك من النقاد والباحثين من رأى ان شعر الإمام الخميني بجملته هو شعر صوفي عرفاني، وهو حلقة وسطى بين الشعر المتعمق العرفاني وذاك السهل المبسَّط. وبهذا استطاع ان ينفذ الى قلب القارئ العادي. وهو بأسلوبه هذا يفارق أسلوبية العديد من الشعراء الصوفيين الذين يستغرقون في عالم الرموز حتى يكاد النص بمجمله يستغلق على الفهم. في حين ان الفكرة الاساسية لدى الإمام هي ان اسرار الكون لا يمكن التعرف اليها في تحقيقات المتصوفة، بل ان هذه الرموز تنكشف بعبادة الله الحقة لا برسوم العبادات والعادات، وهی الاستغراق فی وجود الحق والفناء فی سبحات جلاله وجماله والاستهلال فی شهوده بطريق العشق الكامل له والذوق والانجذاب.

من قصيدة (بحر العشق)

قلبي المجنون اسطورة حول شمعة العشق..

احترقت فراشتي..

ضفيرة المعشوق فخ لقلوب عشاقها..

شامَتُهُ السوداء على الشفة،

بذرتي صخب العشاق وهي وجههم الغمّاز،

الأسرار والإبتهالات كلها في بيتي..

زقاق الحانة البهي، بيت صفاء العشق طاق ورواق

وجهك مأواي..

ومنزلي صراخ الرعد..

نواحٌ لاهبٌ لقلبٍ يبحر العشق..

قطرة سُكْرٍ - حينما تألف المشط مع زلف المعشوق غداً..

كتفي مسجد القديسين كلهم...​

ولعل القارئ لو جال في أعمال الإمام على الجملة لوجد انه كشاعرٍ لا يقلّ شأناً عنه كناثرٍ. وقصائده هنا تعتبر تجلياً لأفكاره العرفانية التي أنشدها في مناجاته مع الله تعالى. اضافة الى انه نظم أشعاراً في أسرار الكون والخلق، وهو الهاجس الأكبر لدى المفكرين والفلاسفة والعرفاء. ويجوز القول في هذا السياق ان الأمام قارَبَ النهج الشعري الذي وضعه الشاعر العرفاني الكبير حافظ الشيرازي، مع سعيه الى ابتكار دلالات جديدة لبعض المفردات الصوفية، وخلق عوالم ذات معانٍ تخرج عن الأطار المألوف. وبالرغم من امتلائها في الرمزية الصوفية والعرفانية، وغموض دلالاتها، الاّ ان قراءة متأنية تجعل من تلك القصائد نقطة جاذبية تسيطر على الروح والحواس بشفافيتها، ولغتها الآسرة، وشاعرية ألفاظها المنتقاة بعناية، وحرقة العطش الى الحب الألهي الفيّاض. . وهو الحب الذي يندلق من ثنايا كل كلمة وعبارة.

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.