التربية و التعليم فى إيران

المصدر: مختارات إيرانية
بقلم: محمد نور الدين عبدالمنعم

هذا العنوان هو عنوان كتاب فارسى إسمه "آموزش وپرورش در ايران" ومؤلفه هو. ولد المؤلف فى عام 1935م فى مدينة قزوين، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون بباريس فى تخصص التاريخ، وتخصص علم الاجتماع فى سنتى 1972 و1977 على التوالى. وقد انشغل دائما بالبحث والتأليف فى مجال علم الاجتماع التاريخى الإيرانى، ومن مؤلفاته فى هذ الصدد نذكر كتاب "التاريخ الاجتماعى والثقافى لطهران" فى ثلاثة مجلدات، وتسعة كتب ضمن سلسلة "ماذا أعرف عن إيران" (از ايران چـه مى دانم؟)، والكتاب الذى نستعرضه هنا هو ضمن هذه السلسلة، وكتاب "نظام التعليم ومؤسساته فى إيران القديمة"، وكذلك أكثر من مائة مقالة منشورة فى المجلات العلمية والثقافية فى ايران.
يتناول المؤلف فى الفصل الأول من هذا الكتاب الجذور القديمة للتربية والتعليم فى ايران، أما الفصل الثانى فيتناول فيه المؤسسات التعليمية فى ايران فى العصور القديمة قبل الاسلام، ثم يتحدث فى الفصل الثالث عن المؤسسات التعليمية فى ايران فى العصر الاسلامى، أما الفصل الرابع فقد خصصه للمدارس ودور العلم بعد الاسلام، وفى الفصل الخامس تناول التطورات التى لحقت بالمؤسسات التعليمية فى ايران بعد اتصالها بالغرب، وفى الفصول السادس والسابع والثامن تحدث عن نظام التعليم ومؤسساته فى ايران منذ الثورة الدستورية وحتى الثورة الإسلامية، وقد روعى فى كتابة هذا البحث الإعتماد على الوثائق والمصادر التاريخية المعتبرة مع قلتها وندرتها فى بعض العصور.
يذكر المؤلف فى الفصل الأول أن التعليم بدأ فى المجتمع الإيرانى كغيره من المجتمعات معتمدا على الأسرة بالدرجة الأولى، وكان التراث الثقافى ينتقل من جيل إلى جيل دون أن تكون هناك مؤسسات تعليمية منظمة. ولا شك أن سكان إيران القدماء قد عرفوا الخط قبل مجئ الآريين إلى هذه المناطق، والدليل على ذلك تلك الألواح الطينية والأختام التى اكتشفت فى تلال "سيلك"، والتى يرجع تاريخها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد. وتفيد المعلومات التى جاءت حول الپارسيين والميديين أن الآريين قد عرفوا الكتابة بعد استقرارهم فى إيران عن طريق السكان المحليين لإيران، وكذلك عن طريق جيرانهم من الآشوريين والعيلاميين.
وعندما وصل الحكم إلى الهخامنشيين توصل المجتمع الإيرانى إلى خط خاص عرف بالخط المسمارى، وهو الذى ظهر فى بداية الأمر على يد السومريين فى نهاية الألف الرابعة قبل الميلاد، وقد تطور كثيرا قبل أن يصل إلى إيران، ولما كان هذا الخط لا يُكتب إلا على الألواح المعدنية أو الحجارة أو الطين أو الآجر، فقد استخدم الناس خطا آخر للكتابة به فوق جلود الحيوانات وأحيانا فوق أوراق البردى وهو الخط الآرامى.
وتفيد بعض الكتابات الدينية وكذلك ما ذكره المؤرخون اليونانيون القدامى أن الإيرانيين ومنذ العصر الهخامنشى (559- 330 ق . م)، قد إهتموا بتعليم النشء، وكانوا يهدفون فيما يهدفون إلى بناء شخصية الأطفال والشباب واكتشاف مواهبهم وقدراتهم، وتعليمهم الحرف كى يحصلوا على عمل داخل مجتمعهم، كما كانوا يتعلمون كثيرا من القيم الهامة كالصدق والعدل وتحمل المشاق والقناعة والعفة والشجاعة وطاعة الوالدين والأمانة والعطف على الحيوانات المفيدة والعناية بالطبيعة وما فيها من أشجار ونباتات وأنهار وغير ذلك. وقد أشار إلى هذا كل من هيرودوت (484- 420 ق . م) وجزنفون (430 - 355 ق . م) واسترابون (58 ق . م 25م) يقول جزنفون: "إن الأطفال الإيرانيين كانوا يذهبون إلى المدرسة حتى يتعلموا العدل والعفة، ويقولون أن هدفهم لا يتعدى ذلك، وهذا المعنى طبيعى عندهم كما نتحدث نحن عن تعلم الأبجدية". ويقول هيرودوت عن إبعاد الطفل عن أبيه فى سنى طفولته: "إن الطفل يربى فى كنف النساء حتى سن الخامسة، ولا يُرى فى حضور والده مطلقا، حتى إذا توفى فى أوائل سن الرشد فإن ذلك لا يؤثر فى أبيه كثيرا، وهذا الأسلوب فى رأيى أسلوب جيد".
كما أشار جزنفون إلى وجود أماكن للتعليم تكون بعيدة عن ضوضاء المدينة وتكون قريبة من معابد النار، حيث كانوا يتعلمون هناك على يدى مدرسيهم كل الأفعال الخيرة، أو كما يقول هيرودوت كانوا يتعلمون الجلوس الصحيح والصدق فى القول والرماية.
ويأتى بعد ذلك غزو الإسكندر واستيلاء المقدونيين والسلوقيين (323- 247 ق . م) على الحكم، وفى هذه الفترة يضطرب نظام التعليم، وقد أثرت الثقافة اليونانية تأثيرا كبيرا على المدن الكبيرة فى إيران، وذلك بعد أن خربت كثير من معابد النار ومراكز التعليم، إلا أن العائلة ظلت هى المؤسسة التعليمية التى حافظت على القيم القومية والتاريخية للإيرانيين.
و ما أن نصل إلى العصر الساسانى (226- 651م) إلا وقد انتشرت مراكز التعليم القائمة على الدين ووقفت فى وجه التيارات الثقافية الخارجية، وتطور التعليم فى مجالات كثيرة كالكتابة والفن والصناعة وغير ذلك، وبدأت تظهر تخصصات معينة تقوم على احتياجات المجتمع الحياتية والاجتماعية والعسكرية كالطب والفلسفة والرياضيات والنجوم والعلوم الطبيعية والجغرافيا والأدب والقانون وغير ذلك، وانتشرت دراسة مثل هذه العلوم فى مدارس عليا انتشرت فى كل أنحاء إيران من الشرق (بلخ وفرغانه وسمرقند ومرو) إلى الغرب (دافنه وأنطاكية ونصيبين وادسا وآمد وقنسرين وطيسفون وهـگمتانه) ومن الشمال (آذربايجان وأران) وحتى الجنوب (سيستان وريواردشير وگندى شاپور) وذلك باللغتين البهلوية الشمالية والجنوبية واللهجات الصغدية والخوارزمية والبلخية والختنية وغيرها.
وتعتبر معظم هذه المعاهد العليا وريثة للإسكندرية، كما وجدت أيضا المدارس اليهودية (يشيا) YESHIVA والمسيحية والمراكز الدينية الزرادشتية فى أماكن كثيرة من إيران، واحتلت التعاليم الكلامية والدينية المكانة الأولى، وتشير المكتبات والمراصد والكتب المؤلفة فى التربية والأخلاق إلى مدى انتشار التربية والتعليم فى تلك العصور القديمة.
أما بعد الإسلام، فقد حث الإسلام كافة المسلمين على التعلم، وأن العلم يأتى فى المرتبة الأولى وكذلك الحال بالنسبة للمعلم، وأنه يجب على المسلم أن يطلب العلم من المهد إلى اللحد، وأن يسعى إلى طلب العلم أينما كان، وأنه يجب على العالم أن يفيد غيره من علمه ولا يكون العلم حكرا عليه، وأول مظاهر التعليم فى إيران بعد الإسلام إنشاء الكتاتيب منذ القرن الثانى الهجرى فى المدن، وقلما خلت منها قرية من القرى الإيرانية، وقد ظهرت هذه الكتاتيب فى إيران بعد أن أخذ الإيرانيون يكتبون لغتهم الفارسية الإسلامية أو الحديثة بالحروف العربية، وأخذت الأجيال الجديدة تلتحق بهذه الكتاتيب من سن الخامسة أو السادسة وكان يطلق عليها فى الفارسية (مكتب أو كتّاب أو مكتبخانه). وقد بدأت هذه الكتاتيب بهدف تعليم القرآن الكريم، وكانت غالبا ما تكون قريبة من المسجد أو ملحقة به. ويُروى أن كتّاب أبى القاسم البلخى (متوفى 105 هـ) كان يضم ثلاثة آلاف تلميذ، وكان كثير من ذوى النفوذ والتجار يقيمون كتاتيب داخل منازلهم أو قصورهم لتعليم الأطفال ويعينون بها "المؤدبين" أى المعلمين والمربيين، كما كان الإيرانيون يربون أبناء الأسرى فى كتاتيب خاصة ويطلقون عليهم اسم "ترابى"، وكانوا يقومون بعد الإنتهاء من تعلم الكتابة والقراءة والرماية والأخلاق بالعمل فى الأعمال الديوانية، وقد وصل بعضهم إلى منصب الوزير.
وقد ظل نظام التعليم مستمرا فى الكتاتيب منذ أقدم العصور وحتى الآن ولم يتطور تطورا كبيرا، فمكانه يكون عادة فى فناء واسع عندما يكون الجو معتدلا، أو يكون داخل غرف كبيرة فى فصل الشتاء، وغالبا ما يحضر التلاميذ معهم سجادة صغيرة للجلوس عليها، ويجلس المعلم فوق كرسى مفروش بسجادة خاصة ناعمة، ويكون بجانبه عادة عصا من فروع الشجر لإستخدامها فى تأديب التلاميذ عند الضرورة.
وكان التلاميذ يأتون إلى الكتَّاب فى الصباح وبعد الظهر، وأحيانا ما كانوا يتناولون غداءهم داخل الكتَّاب، ويستمرون فى الدراسة بعد الظهر بعد أداء صلاة الظهر والعصر. ويغلق الكتاب بعد ظهر يوم الخميس ويعطل فى أيام الجمع وأيام العيد وأيام التعزية. واعتمد التعليم فى الكتاتيب على الأساليب الفردية، وكان التلاميذ المتميزون يقومون بتعليم غيرهم من التلاميذ ويطلق عليهم لقب
"خليفة". وعادة ما تكون القراءة بصوت مرتفع، مما يساعد على النطق الصحيح للكلمات، وتركيز التلميذ فيما يقرأه. وكما أن التعليم فى ذلك الوقت كان يختلف من بلد إسلامى إلى بلد إسلامى آخر، فكذلك كان الحال بالنسبة للتعليم داخل إيران نفسها، فلم يكن التعليم واحدا فى كل مكان، إلا أنه بشكل عام يعتمد على الحفظ، ولم يكن الفهم والتفكر يراعى فى هذه المؤسسات التعليمية، وربما كان يأتى فى المنزلة الثانية.
أما من ناحية التمويل المادى لهذه الكتاتيب فقد كانت الأسر تتعاون معها وتقدم لها الدعم المادى تبعا لإمكاناتها، وكانوا يدفعون لها مبالغ شهرية أو أسبوعية، كما كانت الأسر تكافئ أصحاب هذه الكتاتيب بمناسبة أن أولادهم قد أتموا حفظ أجزاء من القرآن، هذه المكافآت هى التى أطلق عليها فيما بعد إسم "پيش كش" أو "هل وگـلاب".
وكان الفقراء واليتامى يتعلمون مجانا، إلا أن بعضهم كان يعمل داخل الكتاتيب، ولما كان التمويل غير كاف فى بعض الأحيان فقد كان القائمون على أمر الكتاتيب يقومون باستنساخ الكتب وكتابة العقود الشرعية والرسائل والأدعية وغير ذلك من الأعمال فى أوقات فراغهم لتدعيم هذه المراكز التعليمية، لأن المبالغ التى تقدمها أسر التلاميذ لم تكن محددة، بل تدفع تبعاً للحالة المادية لكل أسرة، ونرى الشاعر ناصر خسرو (متوفى عام 481هـ) يشير إلى هذا الوضع فى أشعاره حين يقول ما معناه: "لا تدفع بإبنك لمعلم المدرسة، إذا كنت لا تتحمل دفع درهم له فى أول كل شهر".
أما عن أنواع الكتاتيب فهى تنقسم إلى ثلاثة أقسام، أولها المختلط، وفيها يتعلم الأولاد والبنات جنبا إلى جنب، وغالبا ما يكن النساء هن صاحبات هذه الكتاتيب، وأحيانا ما يشارك الرجال فى مثل هذه الكتاتيب المختلطة، وخاصة من يحسنون تعليم الخط ويطلقون عليهم لقب "مشاق"، فيدعى هذا الخطاط لتعليم الخط يومين فى الأسبوع.
وقد أشار سعدى فى إحدى حكايات "الگلستان" إلى هذا النوع من الكتاتيب حيث يقول:
"رأيت معلم كتاب فى ديار المغرب كالح الوجه، مر الكلام، سيئ الطبع، مؤذيا للناس، شرها فاسقا، كان عيش المسلمين يتنغص برؤيته، وتسود قراءته القرآن قلوب الناس، وكان جمع من الفتية الأطهار والبنات الأبكار مبتلين بيد جفائه، لا جرأة على الابتسام ولا قدرة على الكلام، حينا كان يصفع واحدا على عارضه الفضية، وحينا كان يؤذى لآخر ساقه البللورية".
أما النوع الثانى من الكتاتيب فهو النوع المخصص للبنين فقط، وهذا النوع هو أكثر تلاميذ من النوعين الآخرين. والنوع الثالث هو الذى يقتصر على البنات فقط وهن يتعلمن فيه لفترة قصيرة. وبشكل عام فقد كان المعلمون فى هذه الكتاتيب بأنواعها المختلفة من كبار العلماء أحيانا،ولذلك كان بإمكانهم التدريس فى المدارس الإسلامية الكبيرة، إلا أنهم اختاروا التدريس فى مثل هذه الكتاتيب سعيا وراء الثواب والخدمة العامة. ولذلك فإن أكثر القائمين على أمر هذه الكتاتيب لم يكونوا مؤهلين تأهيلا عاليا ولكنهم اكتسبوا ثقة الأسر واحترامها لأنهم على درجة عالية من الأخلاق والدين. وقد ذكر "الراوندى" نقلا عن "الأصمعى" إنه يجب توافر أربع خصال فى التلميذ ومثلها فى المعلم، فالمعلم يجب أن يتصف بالعقل والصبر والمداراة والعطاء، أما التلميذ فيجب أن يكون عاقلا حريصا على العلم وأن يتمتع بالحافظة القوية ويكون لديه الوقت الكافى للدراسة.
وبالإضافة إلى المعلمين والمتميزين من الطلاب "خليفة"، و"أئمة الصلاة" و"المؤذن" الذين يختارون من بين التلاميذ، فهناك أشخاص آخرون يقومون بعمل المعلم الأصلى أو "الأستاذ" أثناء غيابه، كما كان هناك من يقومون بخدمات أخرى ويطلق عليهم "الفراشون"، أما فى الكتاتيب العامة فقد كان التلاميذ يقومون بكل الوظائف الخدمية، وهم يؤدونها عن طيب خاطر ويحسون بالفخر من أدائها.
وبالنسبة لكيفية التعليم وأسلوبه ؛ فقد كان يبدأ بتعلم الأبجدية وصغار السور، وكان تعلم مبادئ اللغة العربية من الأمور الأساسية فى صدر الإسلام، إلا أنه بعد أن بلغت اللغة الفارسية الاسلامية مرحلة متقدمة من الناحية الثقافية، أخذوا يدرسون الكتب الفارسية، مثل كتاب الـگلستان (الروضة) لسعدى الشيرازى، وغيره.
وكان التلاميذ يقرأون فى الكتاتيب القديمة بعد عامين أو ثلاثة من الدراسة كتبا عربية متقدمة فى ذلك الوقت مثل كتاب الصرف للشريف الجرجانى، ومختصر تلخيص السكاكى، ومقدمة النحو للزمخشرى، وغير ذلك. ولم تكن الكتب تعد دائما بأمر المعلم أو بما يتناسب مع مستوى التلميذ، بل إن ارتباط رب الأسرة وميله إلى كتاب معين موجود بمنزله كان عاملا من عوامل اختيار ذلك الكتاب ككتاب دراسى، كما كان تعليم تحسين الخطوط من المبادئ الهامة فى تعليم الكتاتيب، وإذا لم يكن أستاذ الكتَّاب على دراية تامة بتحسين الخطوط فإنه ينتدب أحد المتخصصين فى هذا الفن يومين فى الأسبوع لتدريس هذه المادة.
أضف إلى هذا أن الكتاتيب كانت تقوم بتعليم العلوم الدينية، بالإضافة إلى القراءة والكتابة، وتعنى أكثر ما تعنى بأركان الصلاة وفروع الدين الأخرى، وكان التلاميذ يتوضأون ويصلون ويقرأون القرآن تحت إشراف المعلم، وبالتالى كان هناك نوع من التعاون بين البيت والمدرسة فى تنشئة الأبناء تنشئة صالحة.
وقد اعتمد التدريس على التنوع فى الموضوعات، وكان لاحترام المعلم شأن كبير، كما إتبعت أساليب مختلفة لعقاب التلاميذ سواء كانت هذه العقوبات نفسية أم بدنية كالضرب بالعصى أو الفلكة، وقد أشار الشاعر سعدى الشيرازى إلى هذه الأساليب واعتبرها هى أساس نجاحه وتفوقه العلمى، كما قال فى موضع آخر "إن جور الأستاذ أفضل من عطف الأب وتدليله"، ولكنه قال أيضا ما معناه: إن الإشادة بالتلميذ ومدحه، يكون أفضل من توبيخ المعلم وتهديده، وقد قبل مبدأ العقاب للأطفال بعض العلماء، كما رفض البعض الآخر كما هو الحال بالنسبة للمعلمين المحدثين.
وإذا نظرنا إلى الوسائل التعليمية، فقد كان يوجد منها الكثير تبعا لما هو شائع فى تلك العصور، ومنها الأقلام المصنوعة من البوص البنى اللون، ويعد برى هذه الأقلام فناً من الفنون التى يتعلمها التلميذ، وأحيانا كان يقوم بهذه المهمة المعلم أو معلم الخط، ويستخدم الإيرانيون لهذه العملية فعل "قط زدن" أى: البرى. ومن أدوات التعليم أيضا: "المحبرة" وكانت تصنع عادة من المعدن ويوضع بداخلها قطعة من الحرير لتشرب الحبر، وكذلك الأقلام الرصاص، ويكون لدى كل تلميذ فى الغالب براية وممحاة، أضف إلى هذا الورق الذى دخل إيران قادما من الصين منذ النصف الثانى من القرن الثامن الميلادى، وتعلم مسلمو ايران صناعة الورق خاصة أهل سمرقند. واللوحة أو ما كان يطلق عليها فى الفارسية "تخته تعليم أو تخته مشق أو تخته ابجد" أى لوحة التعليم أو لوحة الخط أو لوحة الكتابة، وكان التلاميذ يكتبون عليها ثم يمسحون ما كتبوا بعد ذلك بالماء. ومن الوسائل التى كان يستخدمها التلاميذ أيضا ما يطلق عليه فى الفارسية "رحل" وهو عبارة عن قطعتين من الخشب تربطهما مفصلة فيكونا على شكل صليب ، ويضع التلاميذ عليها القرآن أو أى كتاب آخر ويقرأون فيه.
وقد وضعت شروط لمن يقوم بوظيفة التدريس إذ لابد أن يكون من أهل الصلا، حافظا لكتاب الله، حسن الخط، والأفضل أن يكون متزوجا، إلا إذا كان كبير السن معروفا بتدينه وحسن أخلاقه. كما عُد إنشاء الكتاتيب وتجهيزها من السنن الطيبة والأعمال الخيرة التى يقوم بها الملوك والأثرياء وأهل الخير فى المجتمع الإيرانى. ومن هنا خصصت كثير من الأملاك والأوقاف للصرف عليها، كما جاء فى حجة وقف غازان خان الذى أوصى بإنشاء الكتاتيب وتعليم القرآن لمائة يتيم وتربيتهم وتعليم مائة آخرين غيرهم واستخدام خمسة معلمين وخمسة مشرفين ليلازموا الطلاب.
وقد تطورت الكتاتيب فى ايران إلى أن جاء الغزو المغولى فأنزل بهذه المؤسسات التعليمية أضرارا بالغة، إلا أنها ظلت تؤدى رسالتها التعليمية، إلى أن يأتى العصر الصفوى فنجد كثيرا من المعلومات حول هذه الكتاتيب وأسلوب إدارتها وتعاون طبقات الشعب المختلفة معها للقيام بدورها فى تعليم أبنائهم وذلك فى كتب السياح الأوروبيين.
ويتطور التعليم بعد ذلك، ويستكمل التلاميذ الذين أنهوا دراستهم فى الكتاتيب بتعليمهم فيما يسمى بالمدارس حيث كان الصبية فى سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة ممن لديهم القدرة الاقتصادية والاستعداد يواصلون دراستهم فى المدارس.
والمعروف أن إيران كانت تضم مراكز تعليمية عالية فى العصر الساسانى فى تخصصات مختلفة بالإضافة إلى جامعة جنديشابور التى ورد ذكرها فى التاريخ، ومن هذه المراكز أو المؤسسات التعليمية: جامعة "دافنه" الدينية من القرن الأول الميلادى وحتى القرن السادس، وجامعة نصيبين من عام 310 وحتى عام 363م، ومدرسة الإيرانيين فى مدينة إديسا المعروفة بالرها من عام 363 وحتى 489م، ومدرسة آمد (فى تركيا الحالية)، ومدرسة قنسرين (فى سوريا الحالية)، ومدرسة سلوكيا فى عهد انو شيروان برئاسة مارابا كبير الأساقفة الإيرانيين. وفى هذه المدارس كان يقوم بالتحصيل الطلبة المتميزون من مختلف أنحاء إيران ، وكان يقوم على تعليمهم أساقفة المدن الإيرانية وغير الإيرانية. وكان الأسقفان برسوما
(مطران نصيبين فيما بين عامين 449 و450) ونرسى من أشهر أساتذة هذه المدارس.
وتعتبر إيران من أوائل الدول التى أقيمت فيها المدارس الاسلامية نظرا لماضيها الحضارى التليد، فقد أقيمت المدارس الإسلامية منذ القرن الثالث الهجرى على يد أهل الخير والأمراء المحبين للعلم فى مدن آمل ونيسابور وسبزوار وبيهق وبلخ وبخارا، ثم بعد ذلك فى غيرها من المدن الإيرانية.
وفى البداية كانت المساجد هى أول مدارس للمسلمين، وما زال هذا التقليد شائعا حتى الآن، إلا أنها لم تعد تلبى كل الإحتياجات التعليمية بسبب التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بدليل ظهور المدارس الإسلامية بجوار المساجد غالبا. وفى بداية الأمر كان إنشاء المدارس تقليدا للمدارس الإيرانية القديمة أو اقتباسا من نصرانيى المنطقة، ولكن بعد ظهور التشيع قام الفاطميون بتأسيس جامعة الأزهر فى القاهرة، كما قام أهل الجماعة (السنة) فى العصر السلجوقى بإنشاء المدارس النظامية وخاصة نظامية بغداد، ووضعوا بذلك نظاما جديدا للتعليم.
وبالإضافة إلى هذه المدارس، فقد أنشئت دور أخرى للعلم لتعليم العلوم الرياضية والطبيعية كالمراصد، كما درست علوم الطب فى دور الشفاء (المستشفيات) كذلك.
وهناك نوع آخر من المراكز التعليمية الخاصة ألا وهى الخانقاهات والزوايا التى كانت تعلم تعليما خاصا فى المجتمع الإسلامى، مما أدى إلى نشر الأخلاق والقيم فى المجتمع.
هذا وقد أقامت الفرق الدينية المختلفة فى كل مدينة من المدن كبيرة كانت أم صغيرة مدارس تبعا لإمكاناتها الاجتماعية والاقتصادية. وكان الطلاب يتحلقون فيها داخل صحن كبير حول معلمهم، ومن أشهر هذه الحلقات الدراسية حلقة أبى اسحاق الشيرازى، وكانت المناقشات التى تدور بين الطلاب والمعلمين على هيئة سؤال وجواب من أهم سمات هذه الحلقات الدراسية.
وقد كانت المدارس تضم خدما وحراسا ومشرفين يقدمون المعونة اللازمة للطلاب، كما كانت تضم أيضا أوانى ومطابخ وصالات للطعام ومخازن عامة، وأحيانا كانت المدارس الكبيرة كالنظامية والمستنصرية تضم مستشفيات وصيدليات، كما تضم مكتبات يستفيد منها الطلاب والأساتذة.
كان التعليم فى المدارس قديما يقوم على الإملاء. وبشكل عام فقد كان التعليم يعتمد على تدريس مقدمات الفقه والأصول والحديث والتفسير والعلوم القرآنية وعلم الكلام والعلوم الأدبية. وكان الطلاب يحصلون على درجة الإجازة من معلميهم بعد انتهاء دراستهم، ويعودون إلى بلدانهم لإرشاد المجتمع وتأدية الفروض الدينية.
هذا بالنسبة للتعليم الدينى، أما التعليم غير الدينى فالمعروف أن الإيرانيين ساهموا بنصيب كبير فى ترجمة الأعمال العلمية من اليونانية والهندية والبهلوية والسريانية، وكانت العلوم غير الدينية موضع عناية الفرس القدامى منذ العصر الساسانى، وقد قامت نهضة علمية بعد أن تعرف المسلمون على الثقافتين اليونانية والسكندرية وشجع المأمون العباسى على الترجمة وأسس بيت الحكمة فى بغداد، وأقيمت المراصد، بحيث أصبح القرنان الثالث والرابع الهجرى هما العصر الذهبى للحضارة الإسلامية، ومن هنا بدأت المدارس تهتم بتدريس العلوم المختلفة كالرياضيات والفلك والجغرافيا وغيرها. ومن نافلة القول أن تحصيل هذه العلوم لم يكن بالطريقة التى تدرس بها فى الكليات الحديثة، لكن دراستها كان بناء على رغبة الدارس، فيقوم بالتعلم على يد أحد الأساتذة المتخصصين فى مثل هذه العلوم، ويقرأ بعض الكتب على يديه، وكانت المراصد من المراكز التعليمية لهذه العلوم، كما كانت المستشفيات والصيدليات (أو حوانيت العطارة) مراكز تعليمية أخرى لتعليم الطب والصيدلة.
ولابد من الإشارة هنا إلى صبغ المدارس فى إيران بالصبغة الشيعية، وقد ازدهرت مثل هذه المدارس فى العصر الصفوى على وجه الخصوص، وتخرج فيها علماء مشهورون فى الفقه والشريعة، وازدهر التأليف باللغة الفارسية فى الموضوعات الدينية، وازدادت المدارس الدينية أكثر من ذى قبل، وقد أشار كثير من السياح إلى وجود مثل هذه المدارس الشيعية وأساليب التعليم فيها خاصة فى مدينة أصفهان.
وتنقسم الدراسة فى هذه المدارس إلى ثلاثة أقسام:
"المقدمات"، و"السطح"، و"الخارج"، وتدرس فى كل قسم من هذه الأقسام كتب خاصة.
وفى العصر القاجارى تزدهر الحوزة العلمية فى النجف وغيرها من المراكز الدينية والثقافية فى العتبات المقدسة، ويظهر تقدم ملحوظ فى المدارس الشيعية. وعلى الرغم من كل ما تعرضت له إيران خلال الغزو المغولى وما تليه، فقد شهد العصر الصفوى زيادة فى عدد المدارس والكتاتيب وميزانياتها وتطور فى نظام التعليم والتدريس، ومن ذلك عدم الإكراه على الذهاب إلى الكتاتيب وعدم التقيد بسنية المذهب، ومجانية التعليم. وكان الهدف الأصلى للتعليم هو ترويج ونشر المذهب الشيعى، إلا أن التعليم قد تدهور فى نهاية العصر الصفوى بعد تفكك النظام السياسى فى المجتمع وانهيار الأحوال الاجتماعية والاقتصادية. وقد تعرضت البلاد لحالة من الفوضى بعد سقوط أصفهان وحتى تتويج آقا محمد خان وهى الفترة التى بدأ فيها الإيرانيون يتعرفون على حضارة الغرب ويتصلون بها.
ويبدأ التطور فى نظام التعليم فى إيران بإيفاد الطلاب للدراسة بالخارج فى العصر القاجارى خاصة فى عهد عباس ميرزا ولى العهد ونائب السلطنة وثانى الملوك القاجاريين، وأطلق على أول مجموعة سافرت إلى أوروبا إسم "كاروان معرفت" أى: قافلة المعرفة، واستمر مثل هذا الأمر من بعده، فسافر مبعوث فى عام 1225 هـ، وخمسة مبعوثين فى عام 1231 هـ إلى إنجلترا، كما سافر خمسة مبعوثين إلى فرنسا عام 1260 هـ. كما أنشئت مدارس الإرساليات فى العاصمة وعدة مدن أخرى، وأسست مدارس للأقليات الدينية، ومن أهم هذه المدارس تلك التى أنشأها الأمريكيون فى اروميه (1252 و1254 هـ)، كما أنشئت مدارس للفرنسيين فى تبريز وأروميه وسلماس. وهنا ظهر نوعان من التعليم فى البلاد أحدهما تعليم الكتاتيب والمدارس القديمة، والثانى مدارس الإرساليات وإرسال الطلاب للخارج مما شجع الدولة على محاولة إخضاع المؤسسات التعليمية لسلطتها، لكنها لم توفق فى ذلك تماما.
وقد بدأ ميرزا تقى خان امير كبير نهضة جديدة فى تاريخ التعليم الإيرانى عندما أسس "مدرسة دار الفنون" فى طهران بمساعدة معلمين من المدارس النمساوية والفرنسية والهولندية والبولندية، وافتتحها فى 5 ربيع الأول 1268 هـ، و30 ديسمبر 1851م بمائة وخمسين طالبا، وبهذا لفت رئيس وزراء إيران بهذا العمل الثقافى نظر الحكومة إلى قضية التعليم والدور الذى عليها أن تقوم به تجاهه.
و فى عام 1273هـ (1855م) تأسست وزارة العلوم فى إيران، وعين وزيرا لها عليقلى ميرزا إعتضاد السلطنة وكان من علماء العصر الناصرى، وذلك فى التاسع من ذى الحجة عام 1275هـ (1856م)، ويعد هو أول وزير يتولى هذا العمل الاجتماعى والثقافى، وظل يقوم بهذه الوظيفة لمدة إثنتين وعشرين سنة، وبهذه الطريقة اصبحت التربية والتعليم جزءا لا يتجزأ من واجبات الدولة على عهد ناصر الدين شاه.
و فى مدرسة دار الفنون نشطت حركة الترجمة والتأليف، وأعدت كتب جديدة للتدريس فى كافة فروع العلم والمعرفة، وأخذ الأساتذة الأجانب والإيرانيون يدرسون منها لطلابهم.
و بعد تأسيس دار الفنون ظهرت مدارس أخرى على مستوى أقل منها المدرسة المشيرية، ومدرسة العلوم السياسية، ومدرسة الفلاحة المظفرية، ومدرسة الرسم المجانية، وغيرها. كما أسست مجموعة ما يسمى
بـ"انجمن معارف" أى: جمعية المعارف، كما شكلت جمعية أخرى بإسم "انجمن تأسيس مكاتب ملّيه ايران" أى : جمعية تأسيس المدارس القومية الإيرانية، وقاموا بتأليف العديد من الكتب للتدريس فى المدارس.
و بينما كانت المؤسسات التعليمية فى الماضى مستقلة تماما عن الدولة، فإننا نرى الدستور الإيرانى الذى تم التصديق عليه فى شعبان من عام 1325هـ (1907م) قد نص على أن تأسيس المدارس يجب أن يكون مطابقا لقانون وزارة العلوم والمعارف وأن تكون كل المدارس والكتاتيب خاضعة لرئاسة هذه الوزارة.
و قد وضعت وزارة المعارف الإيرانية فى شعبان من عام 1328هـ (1910م) القانون الإدارى للوزارة فى ثلاثة فصول واثنتى عشرة مادة وافق عليها مجلس الشورى الوطنى، ومنذ ذلك الحين أوكل أمر المدارس والتعليم فى أنحاء البلاد إلى هذه الوزارة، وأسست المدارس فى طهران وغيرها من المحافظات وتولى هذه الوزارة شخصيات بارزة قدموا خدمات جليلة للتعليم والثقافة فى ايران، كما تم إرسال ثلاثين طالبا للدراسة بالخارج وذلك فى السنة الرابعة من الحكم النيابى (فى 17 جمادى الأولى 1329هـ) فى تخصصات مختلفة كالعلوم العسكرية والهندسية. وفى هذه الفترة كان معظم من يتولون أمر التعليم من الطبقة الأرستقراطية والأسرة القاجارية الحاكمة ومن الذين تعلموا فى الغرب.
و كان لطهران النصيب الأوفر من المدارس، وكانت بعض المدارس تغلق أحيانا نظرا لقلة الميزانية المخصصة للتعليم. وتفيد الوثائق الخاصة بوزارة المعارف بعد استقرار الحكم الدستورى فى ايران أن الظروف المالية والاقتصادية كانت تحول أحيانا دون تقدم التعليم، وقد تحدد للتعليم الابتدائى ست سنوات وللتعليم المتوسط ست سنوات أيضا تقليدا لنظام التعليم الفرنسى، وقد أجريت الامتحانات النهائية الابتدائية لأول مرة فى طهران عام 1291ش (1911م) وحصل 44 تلميذا وثلاث فتيات على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، كما كانت أول امتحانات نهائية للمرحلة المتوسطة فى طهران فى خرداد عام 1293 (1913م) وتخرج منها ثمانية عشر تلميذا.
و فى هذه الفترة ظلت المراكز التعليمية القديمة كما هى، حيث نجد نحو 1117 كتاَّبا فى كل أنحاء إيران، إلا أنه يتضح من الإحصائيات أن هذا العدد قد أخذ يتناقص بالتدريج بعد ذلك. ولما كانت الحكومة تتولى الإشراف على مثل هذه الكتاتيب فقد تحولت إلى نوع من المدارس الابتدائية الخاصة.
أما عن التعليم العالى، فلم تكن هناك غير جامعة واحدة فى إيران، وفى عام 1325ش (1945م) تأسست المدرسة العليا فى أصفهان وشيراز، وكذلك جامعة تبريز، كما تمت الموافقة على إنشاء جامعة فى كل المحافظات وتكون الأولوية لكليات الطب والزراعة. ومنذ عام 1333 (1953م) وما تليه تحولت كثير من المعاهد العليا إلى كليات، وتكونت جامعات من مجموع الكليات التى سبق إنشاؤها، مثل جامعة أصفهان وجامعة إيران الوطنية، وجامعة جنديشابور بالأهواز وغير ذلك.

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.