القرآن الكريم ساهم بازدياد امتزاج الأمتين المتجاورتين العرب والفرس

 ولا سيما أنهم رأوا القرآن مكتوباً باللغة العربية. ولايمكن فهمه إلا بتعلم العربية والكتابة بألف بائه.

ولم يمض قرنان من الزمان حتى ازداد الإقبال على العربية، بازدياد امتزاج الأمتين المتجاورتين العرب والفرس منذ مطلع العصر العباسي. وقد كان للعناصر الفارسية يد في مساندة العباسيين لدى قيام دولتهم.

وظهرت طبقة مثقفة تحسن اللغتين بقصد المشاركة في الحكم، والتقرب من الخليفة العباسي، وللمباهاة بمعرفتهم العربية. واشتهر بين الفرس شعار «أن العالِمَ هو الذي يحسن اللغتين» ومازال هذا الشعار قائماً حتى اليوم. وسرعان ما أقبلوا على التأليف وقرض الشعر بالعربية إلى جانب اللغة الفارسية، أو الاكتفاء بالعربية لغة العصر العلمية والأدبية. وزاد من إقبالهم على تعلم العربية احتكاكهم بالأسر العربية عن طريق التزاوج، والإماء، واستقرار كثير من العرب في عواصم بلاد فارس كالري وأصفهان وبعض مدن خراسان. ودعي من يحسن اللغتين ويؤلف فيهما، أو يقرض الشعر بهما بـ«ذوي اللسانين». وتميز هؤلاء من غيرهم بما حفظوا من القرآن والحديث والشعر والمقامات والنوادر، إضافة إلى اطلاعهم على تراث العرب ومصنفاتهم ودواوينهم.

الفرس سبقوا العرب في تصنيف كتب التاريخ

وقد تهيأت لذوي اللسانين أعلى المناصب في البلاط وإدارة الحكم، كالحسن بن سهل، والصاحب إسماعيل بن عباد، وعطا ملك الجويني الذي كان يجيد العربية والمغولية إلى جانب الفارسية في عهد هولاكو. وحظيت فئة منهم برضى الخلفاء والأمراء. كما فتحت لهم أبواب الشهرة في العراقين وما بعد العراقين شرقاً وغرباً.

وبدأت علائم ظهور فئة ذوي اللسانين منذ أيام أبي جعفر المنصور، عندما احتاجت الدولة إلى الحضارة الجديدة فشجعت على نقل علوم الأمم المجاورة إلى العربية، كالهندية والفارسية واليونانية؛ إذ تبارى العارفون بهذه اللغات في نقل شتى العلوم إلى العربية، وكان للترجمة من الفارسية الحظ الأوفى، وقد أسهم هؤلاء المترجمون بتعريب كثير من المفردات والمصطلحات أو بنقلها إلى الفارسية عن طريق التقارض اللغوي.

وسرعان ما غدا تباهي الفرس بالعربية أساساً في إظهار براعتهم التأليفية بالعربية، ولاسيما منذ القرن الرابع الهجري، عندما أخذ التأليف بالعربية يزدهر في بغداد وفي معظم الأمصار العربية والإسلامية. وبدأ العلماء الفرس يسابقون علماء العرب في كل ميادين التأليف، وأسماء سيبويه ونفطويه والطبري والثعالبي والعماد، لامعة في صفحات تاريخ الأدب العربي، لكننا لانُعنى بهؤلاء لأنهم لم ينظموا ولم يؤلفوا إلا بالعربية، وإن كانت جذورهم فارسية، وقصدنا العلماء الفرس الذين ألفوا باللغتين معاً، وقرض بعضهم الشعر العربي كما نظموا الشعر الفارسي، والذين دعوناهم بذوي اللسانين، وكان لهم ميادين نجمل أهمها:

1- في الأدب: لعل ابن المقفع يعد في طليعة الأدباء من ذوي اللسانين، فهو الذي ترجم «كليلة ودمنة» و«خدا ينامه: كتاب الملوك». وصاحب المؤلفات العربية مثل الأدب الصغير، والأدب الكبير، ورسالة الصحابة. وأبان بن عبد الحميد اللاحقي الذي مدح البرامكة، ونظم كليلة ودمنة شعراً، وترجم عدداً من الكتب مثل «سيرة أنوشروان» و«مزدك». وموسى بن سيار الذي وصفه الجاحظ بأنه «كان قصاصاً من أعاجيب الدنيا»، وكان من البراعة أنه كان يشرح القرآن للعرب بالعربية، وللفرس بالفارسية. وسعدي الشيرازي أحد أشهر أدباء الفرس، فقد كان ذا ثقافة عربية واسعة نهلها من عيشه في بلاد الشام، والحجاز، ومصر قرابة ثلاثين سنة، فألف ونظم بالعربية والفارسية، حتى إن كتابه «كلستان: روضة الورد» الذي ألفه بالفارسية كان معظم محتوياته من نوادر العرب وأخبارهم وأمثالهم، إضافة إلى شعره العربي، ومثل الأديب الشاعر الجامي (ت 817ه) الذي أمضى عمره بتعلم العربية، حتى إذا أستدَّ لسانه بها راح يؤلف باللغتين أكثر من أربعين ديواناً وكتاباً، قسم كبير منها بالعربية مشهور عند العرب. كقصة « سلامان وأبسال»، و«الدرة الفاخرة»، كما أنه شرح بعض مؤلفات ابن عربي بالعربية «كفصوص الحكم»، و«القزويني» صاحب «لباب الألباب» أشهر كتب الفرس الأدبية نصفه عربي، وقد ألفه على غرار «عيون الأخبار» لابن قتيبة.

2- في التاريخ: سبق الفرس العرب في تصنيف كتب التاريخ بلغتهم لوجود الملكية عندهم، وفي عصر الترجمة شرعوا بترجمة كتب تاريخهم الملكي افتخاراً على العرب وتباهياً بما عندهم من ملكية ومراسيم وقواعد أميرية. وقد ترجموا عدداً من الكتب مثل سيرة أزدشير، وسيرة أنو شروان، وخدا ينامه، واشتهروا بمجموعة كتب باسم «كتب التاج»، وكانوا ينسبون بعضها إلى أعلام الأدب من العرب ليبينوا اهتمام العلماء بتاريخهم مثل كتاب «التاج» الذي ترجموه ونسبوه إلى الجاحظ. كما اشتهر الفرس بمجموعة كتب تحكي سير ملوكهم نثراً وشعراً والتي هي بعنوان «شاهنامة: كتاب الملوك»، وأشهر هذه الشاهنامات شاهنامة الفردوسي الذي نظمها بأكثر من خمسين ألف بيت على البحر المتقارب، وترجمها إلى العربية الفتح بن علي البنداري الأصفهاني وكتب «الآيين: العادات والسلوك»، والبيهقي صاحب التاريخ الشهير الذي ألف باللغتين، وناصر خسرو صاحب «سفر نامه: كتاب الأسفار». وقد قضى زمناً يطوف في بلاد الشام والحجاز ومصر حتى عد أحد الأعلام من ذوي اللسانين.

3- في الشعر: لم يعرف الفرس الأوزان العربية والنظم عليها إلا بعد أن أتقنوا العربية، وقرأوا الشعر العربي. فأحبوا أن يقلدوا العرب في شعرهم، فمنهم من قصر نظمه على الشعر العربي كبشار ومهيار وأبي العتاهية وأبي نواس، وفي شعرهم الكثير من الثقافة الفارسية. ومنهم من نظم بالعربية من غير أن يأتي إلى بلاد العرب، لكن قرض الشعر الفارسي لم يبدأ إلا في مطلع القرن الرابع الهجري، وسرعان ما ظهر منهم شعراء أعلام من ذوي اللسانين ينظمون الشعر باللغتين مثل «منوجهري» الذي قلد العرب في وصف الأطلال، وهو من صميم خصائص الصحراء العربية. وسعدي الشيرازي صاحب القصائد العربية المشهورة، وأهمها ملحمته في رثاء بغداد إثر تدمير هولاكو لها. والشاعر «أسعدي» المعاصر لمسعود الغزنوي صاحب المناظرات بين العرب والفرس. والشاعر أبو عبد الله الجنيد الذي كان ينظم باللغتين ببراعة فائقة، وهو أحد مادحي الوزير الفارسي ابن عباد. والباخرزي مؤلف «دمية القصر»، له ديوان عربي وفارسي، وهو مطبوع. وقد بلغ ببعضهم أن نظموا القصيدة الواحدة بلغتين. وهم الذين ندعوهم بأصحاب الملمعات. وألف شمس الدين الرازي كتاباً حسناً في العروض والقافية أسماه «المعجم في معايير أشعار العجم» كما ألف مثيلاً له بالعربية. وكان إلى جانب ذلك راوية للشعر العربي، ومترجماً بارعاً.

وقد أدرك مؤرخو الأدب من الفرس أهمية هذه الفئة من الشعراء، وخصوهم بالدراسة، فما من كتاب في الأدب عندهم إلا وفيه فصل بعنوان «تازي كويان: المتكلمون بالعربية» وفصل آخر بكتاب النثر بالعربية. والعنوان نفسه. وذلك في كل قرن على حدة.

4- في اللغة: أهمل علماء اللغة الفرس تأليف الكتب والمعجمات اللغوية الفارسية، وأقبلوا على التصنيف بالعربية، فكان منهم علماء النحو كسيبويه، وعلماء اللغة كالزمخشري والفيروزآبادي، ولم ينتبهوا إلى وجوب الاهتمام بلغتهم إلا في مطلع القرن العشرين، ومع أن هؤلاء اللغويين لم يكتبوا شيئاً له علاقة باللغة الفارسية، إلا أن الروح الفارسية كانت ظاهرة في كتبهم، ولاسيما «القاموس المحيط» للفيروزآبادي المفعم بالثقافة الفارسية وشرح الألفاظ المعربة.

لم تنقطع ظاهرة التأليف باللغتين معاً تباهياً بمعرفتهم للعربية أصل حضارتهم الإسلامية، بل استمرت حتى اليوم. ولعل أشهر من برع بها وألف اليوم: جعفر شهيدي، ومهدي محقق، وعبد المهدي يادكاري، وغيرهم من أساتذة الجامعات، والعلماء، وآيات الله.

وتجدر الإشارة إلى أن ظاهرة ذوي اللسانين كانت تطلق كذلك على الأدباء العثمانيين وشعرائهم، ممن كانوا يؤلفون وينظمون باللغتين معاً. بل إننا نرى ظاهرة مهمة في العصر العثماني، هي أن بعضهم يؤلف بثلاث لغات. وكان النقاد يطلقون عليهم كذلك لقب «ذوي اللسانين» من باب التغليب.

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.