المجتمع والثقافة

 أو بعبارة أكثر وضوحاً، الناس يميلون إلى توحيد أنماطهم السلوكية قدر الإمكان داخل مجتمعاتهم، وإن كان هذا التوحيد يبدو ضرباً من المستحيل. وقد اعتنى الباحثون والمفكرون في حقل البحوث العلمية الاجتماعية بدراسة تلك التشابهات في السلوك الإنساني وفي الحياة الاجتماعية، ووجدوا أن هناك تشابهاً وتقارباً كبيراً بين مفهوميّ المجتمع والثقافة، فالعلاقة بارزة وبشكل واضح بين المفهومين من الناحيتين النظرية والواقعية، فالمجتمع هو الأساس الذي يستوعب المدد الثقافي، وهو الوعاء الذي يحتوي العصارة الثقافية لأبنائه، فالثقافة تعتمد على وجود المجتمع في الوقت الذي تكون فيه هي الوسيلة المثلى للنهوض بذلك المجتمع الذي قام بتأطيرها وحفظها لأبنائه المقيمين فيه. وبالرغم من أن علماء الاجتماع والأنثربولوجيا يرون أن هناك نقاط تشابه كثيرة بين ثقافات الشعوب المختلفة، إلاّ أن المشكلة التي لا تزال قائمة حتى اليوم تتمثّل بالسؤال التالي: ما هي الثقافة، وما هو التعريف الأمثل لها؟

لقد ذهب فريق من الباحثين إلى أن الثقافة عبارة عن اندماج المعارف والمعتقدات والأخلاق والأعراف والفنون والقوانين مع بعضها البعض، وقد تبنّى «إدوارد تايلور» هذه النظرية عن الثقافة، وقال في كتابه (الثقافة البدائية) معرّفاً إياها، أنها: «كل مركّب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق، والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع».

 وهكذا نرى أن الثقافة الاجتماعية هي اختراع بشري قام الإنسان بابتكاره من أجل فهم ما يحيط به من رموز وألغاز، ومن أجل أن يعي حقيقة وجوده كانسان له دور في دفع عجلة الحياة للأمام، فالثقافة إذاً، جدولٌ من التداعيات الفكرية الواعية والناضجة التي تجعل المرء يستكشف خبايا نفسه مثلما يستكشف خبايا محيطه، حتى يل في نهاية رحلته إلى دائرة الرؤية العقلانية لحقيقة الثقافة الإنسانية التي ينطبق عليها قول الفيلسوف الهندي «رادها كريشنان» الذي عبّر عن وجهة نظره تجاه علاقة الثقافة بالإنسان بقوله: «إذا ما تعالينا عن مظاهر الاختلاف بين المعتقدات والثقافات، فسنجدها جميعاً واحدة، لأن الإنسانية في جوهرها واحدة، وإن تنوّعت وتعددت ثقافاتها».

 وعندما نتحدث عن نظرية الثقافة من وجهة نظر إسلامية لابد لنا من الوقوف عند النظرية الثقافية التي رسم معالمها العامة أحد أبرز المفكرين من مراجع الدين في العصر الحديث، غادرنا منذ فترة زمنية قصيرة في رحلة سماوية إلى جنان الخلد ودار النعيم في جوار رب جواد كريم، بعد أن ترك لنا وللامة الإسلامية ميراثاً ثقافياً وتراثاً روحياً قلّ نظيره عند الجهابذة والأفذاذ من علماء المسلمين.

اذن الثقافة التي هي ـ حسب تعريفه لها ـ: «عبارة عن الدين والعلم والأخلاق والرسوم والعادات ونحوها»، تتميز بخاصيتين أساسيتين، وهاتان الخاصيتان هما: التكامل والتعقّد. فالتكامل هو الانتقال والتحوّل إلى الأفضل بعد المرور من حالة الوجود بالقوة إلى حالة الوجود بالفعل، فعملية الانتقال من الحالة الأولى إلى الحالة الثانية هي الناتج الطبيعي لعملية تفاعل المرء مع المفردات المحيطة به في مجتمعه، وبالتالي فإن هذه التفاعلات ستؤدي المنتخب من السياق عميلة تشذيب وتهذيب للمعارف والأعراف التي تعيش مع أفراد المجتمع، فالثقافة الحقيقية هي التي تخلق حضارة حقيقية تقوم على احترام الفرد وحفظ كرامة المجتمع، وأية ثقافة لا تعمل من أجل لذلك فهي ثقافة مزيّفة وغير متكاملة.

 أمّا الخاصية الثانية التي تتميز بها الثقافة فهي التعقّد، وتنتج عملية التعقد هذه من حقيقة أن حاجات الإنسان الجسدية والنفسية كثيرة جدّاً، وكلما وجد الإنسان إمكانية الحصول عليها سارع في أخذها بغية تحقق تلك الحاجات، وكنتيجة لذلك فإن الروابط تتعقّد وتتشابك أكثر فأكثر، وهذا بدوره يؤدي إلى تشعب وتعقد المسؤوليات الحضارية التي يواجهها الفرد تجاه نفسه وتجاه الآخرين المحيطين به ثم تجاه المجتمع بأكمله.وثقافة المجتمع، على كثرة وحداتها وفروعها، تنتظم في ثقافة موحّدة هي بمنزلة الهيكل العظمي لثقافة المجتمع العامة، فكذلك الحال بالنسبة للثقافة العامة للمجتمع، فثقافة العقائد وثقافة الآداب وثقافة العلوم والفنون وحتى ثقافة الأحوال الشخصية، هي عبارة عن أجزاء ووحدات ثقافية كلية تعطي المجتمع هويّته المتميزة.

بقلم: راجي أنور هيفا 

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.