بدائل تربوية

بدائل تربوية

 

هناك العديد من الأساليب التربويَّة الخاطئة التي تنتهجها الأم - وأخصُّ الأمَّ؛ لأنَّ عبءَ التربيةِ ملقًى على كاهلها وحدَها غالبًا - والتي قد تؤثِّر سلبًا على أطفالها.

 

السنوات الأولى من عُمر الطفل هي أهمُّ وأخطر الفترات التي ينبغي للأمِّ فيها أن تحرص كلَّ الحرصِ على أن تربِّي تربيةً سليمة، مبتعدةً عن الأساليب التي قد تؤذي الطفلَ إيذاءً شديدًا، وهذا الإيذاءُ قد يكون معنويًّا فقط، يلمسُ شخصيةَ الطفل، وتكوينَه النفسيَّ والعقليَّ، وقد يكونُ حسيًّا، حيثُ يتأثرُ نموُّ الطفل البدني، وقد يجتمع الاثنان معًا.

 

وهذه الأساليبُ الخاطئة يمكنُ تجاوزُها بشيءٍ من الحِكمة، وبشيءٍ من التأنِّي، فتحْدثُ نفس النتيجة التي تنتظرها الأمُّ، بالأساليبِ المعتادة وربَّما أفضل.

 

الاعتداء العاطفي:

يمكن تعريف الاعتداء العاطفي بوصفه النمطَ السلوكيَّ الذي يُهاجِمُ النموَّ العاطفيَّ للطفلِ وصحتِه النفسيَّة، وإحساسَه بقيمتِه الذاتيةِ، وهو يشملُ الشتْمَ والتحبيطَ، والترهيبَ والعزلَ، والإذلالَ والرفضَ، والتدليلَ المفرطَ، والسخريةَ، والنقدَ اللاذعَ، والتجاهلَ"، وسنعرضُ هنا أهمَّ هذه السلبياتِ مع بيان بدائِلها التربويَّة المقترَحَة.

 

بدائل "لا":

لا؛ كلمةٌ سهلةٌ وقصيرةٌ، ولكن حينما تنظرين إلى ما تفعلُه هذه الكلمةُ في نفسية طفلِك إذا تكررتْ باستمرار، ستتأكَّدين أنَّ بدائلَها الأطول هي في الواقع أكثرُ فاعليةً، وأنَّك يجبُ أن تبحثي عن طرق أخرى للرَّفْض، حينما يطلبُ منكِ طفلُك طلباتٍ، وهذا ما يؤكِّدُه: د. محمد سيد خليل - أستاذ عِلم النفس بكليةِ الآداب بحامعة "عين شمس"، واستشاريُّ التدريب والتنمية البشرية -: أنَّ هناك عدَّةَ بدائلَ لكلمة "لا"؛ منها:

 

1 - أعطي معلومة:

فإذا طلبَ منكِ أن يلعبَ مع أصدقائِه؛ فبدلاً من أن يكونَ الرَّدُّ بلا، لن ينفع؛ فيمكنُ القولُ: الغذاء سيكونُ جاهزًا في خمسِ دقائقَ، والنتيجةُ أنَّه قدْ يقولُ الطفلُ لنفسِه: يمكن أن يكونَ الوقتُ غيرَ مناسبٍ، وبالتالي تطرحين أفكارًا جديدةً قد يقابلُها ردُّ فعْل إيجابي من ابنك.

 

2 - تقبَّلي مشاعره:

فإذا كنتِ - مثلاً - في الملاهي أو حديقة الحيوان ورفضَ ابنُك أن يذهبَ إلى المنزل، وطلبَ أن يمكثَ بعضَ الوقت، فيمكنُ أن تردِّي بأنَّك بالفعل ترين أنَّه مستمتعٌ بوقتِه، ويمكنُ أن تأتي به مرَّةً أخرى، وتأخذينَ يدَه ليسيرَ معكِ، فأحيانًا تقلُّ المقاومةُ حينما يتفهَّمُ شخصٌ ما مشاعرَنا.

 

3 - صِفِي المشكلةَ الموجودة:

فإذا طلبَ منكِ الابنُ أن تأخذيه إلى النادي الآن، بدلاً من الردِّ المعهود "ألا ترى كم أنا مشغولة"، يمكن أن تُشركيه معك؛ فحينما تصفين المشكلةَ فلا يسعُ الطفلَ إلاَّ أن يُفكِّر في حلٍّ لها، ويمكنُ أن تقولي له: "كنتُ أودُّ فعلاً أن آخذك للنادي، ولكن أنا مشغولة بإعداد الغذاء لأبيك عند عودتِه من العمل".

 

4 - أعطي نفسَكِ فرصة للتفكير:

"هل يمكنني أن أقضي اللَّيل في منزل جدتي؟"، يطرحُ عليك ابنُك هذا السؤالَ، بدلاً من الرفضِ المباشر بلا لأنَّك قضيتَ الليلَ هناك الأسبوعَ الماضي، يمكنُ الرد: "دعني أُفكِّر لبعضِ الوقتِ"، فإنَّ منْحَ فرصةٍ للتفكيرِ تخففُ من حدَّة (لا) على الطفلِ وعلى الأقل؛ سيعرفُ أنَّ طلبَه قد أُخِذَ بعين الاعتبار، وأيضًا تُعطِي فرصةً للوالدين؛ للتفكيرِ من خلالِ مشاعرِه.[1]

 

بدائل الضرب:

الضربُ وسيلةٌ من وسائلِ التربيةِ ولا شكَّ، لكنَّها لا تأتي في المقام الأوَّل، كما يحدث في أغلبِ بيوتِنا، فيمكنُ للطفل أن يُربَّى تربيةً سويَّة قويمة، دون أن يُضطرَّ الوالدان إلى ضربِه مرَّةً واحدة.

 

الطفلُ قد يقعُ أحيانًا كثيرةً في ما لا يُدرك من أخطاء، وقد يقولُ ما لا يفهم، وقد يُقلِّدُ غيرَه في أشياءَ لا يَعيها؛ لكنَّه يفعلُها من باب المَرَح والطفولة، ومن باب حبِّ الاستطلاع، فلا ينبغي للوالدين أن يُعاقباه على شيءٍ لا ناقةَ له فيه ولا جمل؛ بل الأفضل أن ينبِّها الطفلَ بالوسيلةِ المناسبة إلى أنَّ ما فعلَه أو قالَه... إلخ خطأٌ، فإذا وقع مرَّة أخرى في نفس الخطأ فلا ييأسَا، بل يُفهِّمانه، ويُقنعانِه مرَّةً أخرى، مستخدمين وسائلَ مختلفةً كلَّ مرَّة، فالكلامُ النظريُّ أحيانًا مثل: " لا تفعل كذا مرة أخرى"، أو " هذا فعل خطأ يا فلان"... إلخ، قد لا يَعلقُ بذهن الطفل، فينساه، فحبَّذا لو استخدمَ الوالدان طرقًا، يمتزجُ فيها التعليمُ بالإثارة، والفائدةُ مع المتعة، فإذا لم يستجبِ الطفل، فربَّما يتوجَّهانِ إلى صرْف انتباهِه إلى فعل آخرَ؛ يعني مثلاً: إذا كان الطفلُ يعبثُ كثيرًا بمحتويات الصالة، فيمكنُ أن تحضري له "مكعَّبات" ليلعب بها، وإذا كان يَهوَى الجريَ والقفزَ ككلِّ أطفالِنا، فيمكنُ أن تأخذيه إلى النادي، لينمِّي مهاراتِه منذ الصِّغر، وهكذا تَصرفين انتباهَه من العمل السلبيِّ إلى الإيجابي، فإن لم يكن هناك نتيجةٌ، فتحاولين مرَّة بعد مرَّة، واتركي خيارَ الضرب، أو العقابِ إلى النهاية، فإن وصلتِ إليه، فلْيكن عقابَ المحبِّين، وضربَ المُعاتبين، فتبيِّنين له غضبَك من فعالِه، وعدمَ رضاك من أقواله، أمَّا أن يكون الضرب هو سلاحَك الأوَّل، فأبشري بطفلٍ معقَّدٍ نفسيًّا!!

 

بدائل التوبيخ: ويشمل الشتم، والسخرية، والنقد اللاَّذع.. إلخ:

قد يُحدِثُ التوبيخُ والصراخُ في نفسيَّة بعض الأطفال آثارًا تُجاوزُ ما يُحدِثه الضربُ فيهم، وتتفاوتُ استجابةُ الأطفال لكِلاَ المؤثِّرين، وقد مررتُ بذلك؛ حين كنتُ أباشرُ تحفيظَ الأولادِ الصِّغار القرآن، فبعضُهم قد يحمرُّ وجهُهُ، وتتأثَّرُ نفسيتُه وربَّما يبكي، بسبب نظرةٍ، أو بسبب كلمةٍ واحدةٍ وجَّهتُها له، والبعضُ الآخر، يضحك حتى لو استخدمتُ كلَّ ما في القاموس من عبارات النَّهر والتوبيخ! بعضُهم إذا لمستُه هكذا بالعصا يَبكي وينتفضُ، وبعضُهم لو سلختُه حيًّا "أبالغ طبعًا" ما أثَّر ذلك على نفسيته، وهذا يرجع؛ أوَّلاً إلى: الفطرةِ التي فطرها الله في الأطفالِ، ثانيًا: إلى البيئة والعوامل النفسيَّة المحيطةِ بالطفلِ.

 

فينبغي للأمِّ أن تراعيَ ذلك، فأصابعُ الإنسانِ الواحدةِ مختلفةٌ، وكذلك أبناؤُها، تختلفُ نفسيَّاتُهم من واحدٍ لآخرَ، فقد يُجْدِي الضربُ مع أحدِهم، والآخرُ قد تسيطرين عليه بمجرَّد كلمة.

 

ابتعدي عن التوبيخ تمامًا؛ خصوصًا في سِنيِ الأطفال الصغيرة، حيثُ يكتسبون المهارات، ويجمعون المعلومات، وتتكوَّن نفسيَّاتُهم شيئًا فشيئًا، فبالتوبيخ المستمر ربَّما يتوقَّف كلُّ ذلك، فيتأثَّر مستوى الطفل تبعًا، وربما يصادفُ التوبيخُ المفرط طفلاً حسَّاسًا، يولِّد لديه كبتًا، وشعورًا داخليًّا بالاضطهاد، يمكننا ببساطة أن نستبدلَ العديدَ من عباراتِ التوبيخ بعباراتٍ أخرى، تؤدِّي المعنى، لكنَّها لا تؤذي الطفل.

 

أحيانًا قد تواجه الأمُّ طفلاً عنيدًا، فلا يؤدِّي توبيخُه إلاَّ إلى زيادةِ الأمر سوءًا، تقول الأم مثلاً:

"لا، كف عن اللعب بالتلفاز"، فيزدادُ تمسُّكه باللعب، تأتي الأم وتعاقبُه، وتنهره، وربما تضربه، فيأتي من الغَد، لا همَّ له إلاَّ أن يلعبَ بالتلفاز! والطفلُ العنيد مشكلة كبيرة جدًّا، ينبغي التعامل معها من قِبل الوالدين بحكمة وصبر، يمكن أن نقول - مثلاً -: "يمكنك أن تلعبَ بالكمبيوتر يا فلان، بدلاً من التلفاز، لأنَّه قد يعطل"، فالآن انصرفَ انتباهُ الطِّفل إلى شيءٍ آخرَ، وهذا يقلِّل من مقاومته شيئًا، ثم فَهِمَ أنه لا ينبغي له أن يلعبَ بالتلفاز؛ لأنَّه قد يعطل، وهذه تأتي على البقية من مقاومته، إذا أحسَّ أنَّ من أمامَه يعاملُه كناضجٍ، فلا يكتفي بالأمر والنهي فقط، بل يوضِّح ويبيِّن الأسباب.

 

يضربُ الولدُ أختَه الصغيرة كثيرًا، فبدلاً من توبيخه دائمًا، أنَّه "يعمل رجل" على أخته الصغيرة، وأن "يتشطر" على الأولاد الأكبر منه الذين يضربونَه في المدرسة"... إلى آخر هذه العبارات المؤذية، يمكن أن نملأَ قلبَه حنانًا على أخته، "لا، أنت رجل البيت بعد أبيك، وهذه أختُك في حمايتك، فهل تحب أن يضربها أحد؟! أنت الأخ الأكبر، والكبير لا بدَّ أن يعطف على الصغير"، جرِّبي أن تحاوري الصغيرَ كإنسان ناضج، جرِّبي، واستمتعي بالنتيجة فعلاً.

 

ولْتحذري كلَّ الحذر أن تحقِّري من ابنك أو تحطِّي من شأنه: فهذا السلوك يؤدِّي إلى: رؤية الطفل لنفسه في الصورةِ المنحطَّة التي ترسمُها ألفاظك، مما يحدُّ من طاقة الطِّفل ويعطِّلُ إحساسَه الذاتيَّ بإمكاناته وطاقاته، إطلاقُ أسماء على الطفلِ مثل: "غبي"، "أنت غلطة"، "أنت عالة"، أو أيِّ اسمٍ آخرَ يؤثِّر في إحساسه بقيمتِه وثقتِه بنفسه، خاصةً إذا كانتْ تلك الأسماءُ تُطلقُ على الطِّفل بصورة مكرَّرةٍ.

 

وبديل ذلك:

أن يمارسَ الوالدان الانتقادَ الفعَّال؛ بمعنى: أن ينتقدَا فِعلَ الطِّفل، وليسَ شخصيتَه، مثلاً: عندما تكونُ درجةُ الطِّفلِ في الامتحان دونَ المستوى المتوقَّع منه، فمِن الأفضل أن يُقالَ للطِّفل: إنَّه لم يستغلَّ وقتَه بطريقة صحيحة، أو إنَّه لم يعطِ الاهتمامَ أو الوقتَ الكافيَ الذي يحتاجُه للدراسةِ، فكلماتٌ مثلُ هذه تساعدُ الطفلَ على معرفة مَكْمنِ المشكلة، وتساعدُه على إيجاد حلولٍ لها، ويعلمُ أنَّ فِعلَه هو المشكلةُ؛ فلن يؤثِّرَ ذلك على نظرته لنفسه على أنَّه إنسانٌ فاشل، بعكس إذا ما استُخدمتْ كلماتٌ مثل: "أنت غبي"، "لن تفلح أبدًا"، "لقد أخجلتنا، وأنت عار علينا"، فهذه الكلمات تَضرب في صميم شخصيته، وثِقته بنفسه.

 

بدائل التدليل:

الدلالُ فعلٌ يغرسُ الأنانيةَ في نفس الطفل؛ لذا ينبغي للأمِّ أن تخفيَ عن ابنِها حبَّها الشديدَ له؛ كي لا يتخذَه وسيلةً لارتكاب أفعالٍ غيرِ مُرضيَّة، فيصبحُ عنيدًا قاسيَ الطِّباع.

 

السببُ الرئيسُ وراءَ إفساد الأطفال بكثرة تدليلِهم: هو تساهلُ الوالدين، وعدمُ تحكمهما في الأطفال، واستسلامهما لبكائهم وغضبِهم، وعدمُ تمييزِهما بين احتياجات الطفل الفعليَّة (كطلبه للطعام) وبينَ أهوائِه (مثل طلبه للعب)، فهما يخافان جَرْحَ مشاعرِ الطفلِ ويخشَيان بكاءَه، ومن ثم يَلجَأان إلى أسرعِ الحلول وأقربها، ويفعلان أيَّ شيءٍ لمنعِ الطفلِ من البكاء؛ ولا يدركان أنَّ ذلك قد يتسببُ في بكاء الطِّفل بصورةٍ أكثرَ على المدى البعيد.

 

كثيرًا ما يؤدِّي حرصُ الأمِّ إلى شدَّة التضييق على الطفل، حتى إذا ذَهَبتْ به في نزهة، جعلتْه إلى جانبها ولم تسمحْ له بالابتعادِ عنها، وبدأ يُعكرُ مزاجَ  الآخرين، فلا هو يلهو اللهو البريء، ولا هو يكفُّ أنينَه وضجيجه.

 

سمات الطفل المدلَّل:

ويتميَّز سلوكُ الطفل المدلَّل بالفوضى والتلاعُب، مما يجعله مزعجًا للآخرين، وببلوغه السَّنة الثانية أو الثالثة من العمر يكون لديه الكثير من الصِّفات التالية:

- لا يتبعُ قواعدَ التهذيب، ولا يستجيبُ لأيٍّ من التوجيهات.

- يحتجُّ على كلِّ شيء، ويصرُّ على تنفيذ رأيه.

- لا يعرفُ التفريقَ بين احتياجاتِه ورغباتِه.

- يطلبُ من الآخرين أشياءَ كثيرةً، أو غيرَ معقولة.

- لا يحترمُ حقوقَ   الآخرين، ويحاولُ فرْضَ رأيِه عليهم.

- قليلُ الصبرِ والتحمُّل عندَ التعرُّض للضغوط.

- يُصابُ بنوبات البكاءِ أو الغضبِ بصورة متكررة.

- يشكو دائمًا المللَ.

 

مخاطر التدليل:

يخلطُ الكثيرون بين الاهتمامِ بالطِّفل والإفراطِ في تدليلِه، وبوجهٍ عام فإنَّ الاعتناءَ بالطفل شيءٌ جيِّد، وضروريٌ لعملية نموِّ الطِّفل الطبيعيَّة، غيرَ أنَّه إذا زادَ هذا الاهتمامُ عن الحدِّ أو جاء في وقتٍ غيرِ مناسب، كانتْ له أضرارٌ بالغةٌ، كأن يتعارضَ اهتمامُك به مع تعلُّمه كيفَ يفعلُ الأشياءَ لنفسِه، وكيفَ يتعاملُ مع ضغوط الحياة، وكذلك إذا استسلمتِ لطلب الطِّفلِ أثناءَ انشغالك، أو في أعقابِ تصرُّفِه تصرُّفًا خاطئًا يستحقُّ عليه العقاب بالإهمال.

 

يواجهُ الطفلُ المدلَّلُ مشاكلَ كثيرةً وصعوباتٍ جمَّة إذا بلغَ السِّن الدراسي دون أن يتغيَّرَ أسلوبُ تربيتِه، ذلك أنَّ مثل هؤلاء الأطفال غالبًا ما يكونون غيرَ محبوبين بالمدرسة؛ لفرطِ أنانيتهم وتسلُّطِهم، كما أنَّهم قد يكونون غيرَ محبوبين من الكبارِ أيضًا، أو من والديهم نتيجةً لسلوكِهم وتصرُّفاتِهم، ومن ثَمَّ يصبح هؤلاء الأطفال غيرَ سعداء، الأمر الذي يجعلهم أقلَّ تحمُّسًا واهتمامًا بالواجبات المدرسية؛ ونظرًا لافتقارهم إلى السيطرة على أنفسهم قد يتورَّطون في سلوك بعض تصرُّفات المراهقين الخَطِرة؛ كتعاطي المخدرات، ناهيك عن أنَّ الإفراط في تدليل الطِّفل يجعله غير قادر على مواجهة الحياة في عالَم الواقع.

 

وتروي لنا إحدى الفتيات قصّتها مع التدليل فتقول:

" نشأتُ كطفلةٍ وحيدةٍ لأمها، كنتُ مصدرَ اهتمامِ الجميع، يخافونَ عليّ لدرجةٍ   مبالغٍ فيها، وكان ذلك يضايقُني كثيرًا، ويزيدُ من إحساسي بالحِرمانِ والنقص من شيء ما تحاول أسرتي دائمًا تعويضَه باهتمامها الكبير بي، ودفعي للإحساس بأنني نجمة البيت تربيت على ألا أخدم الغير؛ بل الجميع يخدمونني، لدرجة أنَّ أقاربي كانوا يستهزئون منِّي في كل مناسبة بأنَّني لا أفهم في شؤون البيت، ولا أستطيع أن أعتني بأموري الخاصة، ولن يقبل دلعي في المستقبل أيُّ رجلٍ كيفما كان، ولم أدرك حقيقة تلك الملاحظات إلا بعدَ أن تزوجت، حينها أحسست أنه عليَّ البدء من الصفر كما أنني لم أتخلص من الإحساس من النقص كبنت وحيدة إلاَّ بعد أن أنجبت طفلي البكر، أمَّا قبل ذلك فقد كنت ضائعة بين إحساسي بالوحْدة، وإشفاقي على أمِّي التي تحاول دائمًا تعويضي عن هذا النقص".

 

من صور التدليل المفرط: 

عندما يقول أو يفعل الطِّفل خطأ يؤثِّر سلبًا على شخصيته - خاصَّة عندما يكون هذا الخطأ يُكرَّر وأصبح عادة للطفل - فتكون ردةُ فعْل الوالدين سلبيَّة، ولا يحاولان تعديلَ سلوك الطِّفل لكي لا ينزعجَ، ويعتقدان أنَّه "سوف يصلح حاله عندما يَكبَر"، صحيح أنه قد يبدو أنَّ الطفلَ سعيدٌ بهذا الوضع في الوهلة الأولى لأنَّه حرٌّ، يفعلُ ما يريد ولا يرى من يحاسبه أو يردعه؛ ولكن واقع الأمر ليس كذلك، فالطِّفلُ قد يفقد شعورَه بالأمان؛ لأنَّه تُرك وحدَه يقرِّر من دون أن يشعر بأنَّه يوجد من يساعدُه في اتِّخاذ القرارِ الصحيح إذا ما أخطأ أو احتاجَ إلى مساندة، فشعورُ الطفل بعدم الأمان والتوتُّر قد يكون له تأثير سلبيٌّ على شخصيته، خاصَّة إذا كان المجتمعُ والأفرادُ المحيطون به لا يَقبلون أو يرفضون تصرفاته غير اللائقة.

 

كيف نتعامل مع الطفل، حتى لا ينشأَ مدلَّلاً؟

أوَّلاً: يجب تحديدُ قواعدِ التهذيب المناسِبة لسنِّ الطفل: وهذه مسؤولية الوالدين، وتهذيب الطفل يبدأ عند بلوغه السِّن التي يحبو فيها، ففي بعض الأحيان قد يكون مفيدًا للطفل إذا رفضْنا طلبه بكلمة "لا"، فالطِّفل بحاجة إلى مؤثِّر خارجي يسيطرُ عليه، حتى يتعلمَ كيفَ يسيطرُ على نفسه، ويكونُ مهذَّبًا في سُلوكه، وسيظلُّ الطفل يُحبُّك حتى بعد أن ترفض طلبه، فحبُّ الطفل لك ليس معناه أنَّك أب جيِّد، أو أمٌّ جيِّدة التربية.

 

ثانيًا: إلزامُ الطفل بالاستجابة لقواعدِ تهذيب السُّلوك التي تمَّ وضعُها: فمن المهمِّ أن يعتادَ الطفلُ الاستجابةَ بصورةٍ لائقةٍ إلى توجيهات والديهِ قبلَ دخولِه المدرسةَ بفترةٍ طويلة، ومِن هذه التوجيهات: جلوسه في مقْعد السيَّارة، وعدم ضرْب الأطفال الآخرين، وأن يكون مستعدًّا لمغادرة المنزل في الوقت المحدَّد صباحًا، أو عند الذَّهاب إلى الفِراش، وهكذا، وهذه النظم التي يضعها الكِبارُ ليست محلَّ نقاش للطفل، إذا كان الأمر لا يحتمل ذلك  .

 

غير أنَّ هناك بعض الأمور التي يمكن أن يؤخذ فيها رأيُ الطفل؛ منها: أيُّ الأطعمة يأكل؟ وأيُّ الكتب يقرأ؟ وماذا يريد أن يلعب؟ وماذا يرتدي من الملابس؟... إلخ.

 

ثالثًا: التمييز بين احتياجات الطِّفل ورغباته: فقد يبكي الطفل إحساسًا بالألم أو الجوع أو الخوف، وفي هذه الحالات يجبُ الاستجابة له في الحال، أمَّا بكاؤه لأسبابٍ أخرى، فلن يُسبب أيَّة أضرار له، وفي العادة يرتبط بكاء الطفل برغباته وأهوائه، والبكاء حالة طبيعيَّة نتيجةَ حدوث تغيُّر أو إحباط للطفل، وقد يكون البكاء جزءًا من نوبات الغضب الحادَّة، فتجاهليه ولا تعاقبيه؛ وإنَّما أخبريه أنه طفل كثيرُ البكاء، وعليه أن يكفَّ عن ذلك.

 

وعلى الرَّغم من أنَّه لا يجوز تجاهُل مشاعر الطفل، فإنه يجب ألاَّ تتأثَّري ببكائه، ولكي تعوضي الطفل تجاهلَك له عندَ بكائه، ضمِّيه وعانقيه ووفِّري له الأنشطة الممتعة في الوقت الذي لا يبكي فيه، أو لا يكون غاضبًا، وهناك بعض الأحيان التي يجب أن تتجنبي فيها الاهتمامَ بالطفل أو ملاعبته مؤقَّتًا؛ كي تساعديه على تعلُّم شيءٍ مهم.

 

رابعًا: لا تسمحي لنوبات الغضب عندَ الطفل بالتأثير عليك:

فالطفل أحيانًا تنتابه نوباتُ غضب حادَّة كي يجذبَ انتباهك، أو لكي يَثنيَك عن عزيمتك وتُغيِّري رأيك، ومن ثَمَّ يحصل على ما يريد، وقد تكون نوبات الغضب على شكل نُواح أو تذمُّر أو شكوى، أو بكاء أو كتْم النفس، أو أن يرتطم الطفل بالأرض، وما دام الطفل يبقى في مكان واحد، وليس متوتِّرًا بدرجة كبيرة، وليس في وضْع يعرِّضه للأذى، فأهمليه   أثناءَ هذه النوبات، ومهما كان الأمر يجب ألاَّ تستسلمي لنوبات غضبه.

 

خامسًا: لا تغفلي عن التهذيب، حتى في وقت المتعة والمرح:

إذا كان كِلاَّ الوالدين يعملان فربَّما يرغبان في قضاء جزء من المساء بصُحبة الطفل، وهذا الوقت الخاص يجب أن يكون ممتعًا؛ ولكن ليس معنى هذا أن يتهاونَا في تطبيق قواعد التهذيب، فإذا أساء الطِّفل السُّلوك يجب تذكيرُه بالحدود التي عليه التزامها.

 

سادسًا: استشيري طفلك بعد الرابعة من عمره:

لا تتحدَّثي كثيرًا عن قواعدِ السُّلوك مع الطفل إذا كان عمرُه عامين؛ فالأطفالُ في هذه السنِّ لا يتقيَّدون بهذه القواعد، أمَّا عندما يبلغ أربعَ أو خمسَ سنواتٍ من العمر، فيمكنك أن تبدئي بشرْحِ الموضوعاتِ التي تتعلَّقُ بتهذيب السُّلوك، وإن كان ما زال يفتقرُ إلى فَهْم هذه القواعد، فعليك إفهامَه ومحاولة إقناعه، لا سيما قبلَ دخوله المدرسة الابتدائية، أمَّا عندما يبلغ الطفل سنَّ المراهقة - من أربعة عشر عامًا إلى ستَّة عشر عامًا - فيمكن مناقشته كشخص بالغ، وفي تلك المرحلة يمكنك أن تسأليه عن رأيه في أيٍّ من هذه القواعد والعقوبات.

 

سابعًا: علِّمي الطفل كيفيةَ التغلُّب على السأم:

إذا كنت تتحدَّثين وتلعبين مع الطفل عدَّة ساعات كلَّ يوم، فليس من المتعيِّن أن تشاركيه اللعب دائمًا، أو تُحضري له بصفة دائمة صديقًا من خارجِ المنزل ليلعبَ معه، فعندما تكونين مشغولةً توقَّعي من طفلك أن يسلِّي نفسه بمفرده، فالطِّفل البالغ من العمر سنة واحدة يستطيع أن يشغل نفسه لخمس عشرة دقيقة متواصلة، أمَّا عند الثالثة من العمر، فمعظم الأطفال يستطيعون تسلية أنفسهم نِصفَ الوقت، وعندما تصطحبين الطفل خارجَ المنزل للتسلية، فإنَّك تُسدِين له بذلك معروفًا؛ حيث إنَّ اللعب الإبداعيَّ والتفكير الجيِّد وأحلام اليقظة تقضي جميعُها على الملل؛ وإذا كان يبدو لك أنك لا تستطيعين ترويضَ نفسك كموجِّهٍ اجتماعي للطفل، فعليك أن تُلحقيه بروضة للأطفال.

 

ثامنًا: علِّمي الطفل كيفية الانتظار: فالانتظار يُعلِّم الطفلَ كيف يتعامل مع الضُّغوط والمعاناة بصورة أفضل، فجميع الأعمال في عالَم الكِبار تحمل شيئًا من المعاناة؛ لذا فإنَّ تأخير تلبية رغباتِ   الطفل سمةٌ يجب أن يكتسبها تدريجيًّا بالممارسة، لا تشعري بالذنب إذا جعلت الطفل ينتظر دقائقَ من حين لآخر، (فمثلاً يجب ألا تسمحي للطفل أن يُقاطع محادثاتك مع الآخرين)، فالانتظار لن يَضيره ما دام أنَّه لا يُسبِّب له ضيقًا أو إزعاجًا، ومن ثَمَّ سوف يقوِّي ذلك مثابرتَه وتوازنه العاطفي.

 

تاسعًا: لا تُجنِّبي الطفل مواجهة تحديات الحياة العادية: فحدوث التغيُّرات - مثل الخروج من المنزل وبدء الحياة   المدرسيَّة - يُعدُّ من ضغوط الحياة العادية، ومثل هذه الفرص تُعلِّم الطفل وتجعله قادرًا على حلِّ مشاكله، كوني دائمًا قريبة ومستعدَّةً لمساعدة الطفل عندَ اللزوم؛ لكن لا تساعديه إذا كان بمقدوره أن يفعل الشيءَ بمفرده، وعمومًا فعليك أن تجعلي حياةَ الطفل واقعيَّة وطبيعية بالقدر الذي يستطيع تحمُّلَه وفقًا لسِنِّه، بدلاً من إجهاد نفسك بتوفير أكبرِ قدر من المتعة له؛ لأنَّ قُدراتِ الطفل على التكيُّف وثقته بنفسه سوف تنشطُ، ويستفيد من خوْض تلك التجارب.

 

عاشرًا: لا تُفرطي في مدح الطفل: يحتاج الطفل بطبيعته إلى المدح، ولكن قد يُسرف الوالدان في ذلك، امدحي الطفلَ على سلوكه الحسن والتزامه بطاعة ربِّه ووالديه، كذلك شجعيه على القيام بأشياءَ جديدة، وخوْضِ المهام الصعبة، ولكن عوِّديه القيام بعمل الأشياء لأسبابٍ يراها هو بنفسه أيضًا، فالثِّقة بالنفس والإحساس بالإنجاز يتأتَّيان من القيام بالأعمال التي يَفخر بها الطِّفل، أمَّا مدح الطِّفل أثناء قيامه بالعمل، فقدْ يجعله يتوقف عند كلِّ مرحلة؛ رغبةً في تلقِّي المزيد من المدح والإطراء  .

 

حادي عشر: علِّمي الطفل احترامَ حقوق والديه: تأتي احتياجات الأطفال من حُبٍّ وطعام وملبس وأمن وطمأنينة في المقام الأوَّل، ثم تأتي احتياجاتُك أنت في المقام الثاني، أمَّا رغبات الطفل (مثل اللعب)، أو نزواته (مثل حاجته إلى مزيد من القصص عند النوم)، فيجب أن تأتي في المقام الثالث، ووفقًا لِمَا يسمح به وقتك، ويزداد هذا الأمر أهميَّةً بالنسبة للوالدين العاملين اللذين يكون وقتهما الذي يقضيانِه مع أطفالهما محدودًا، والشيء المهمُّ هنا هو مقدار الوقت الذي تقضينه مع أطفالك وفعاليته، فالوقت المثمر هو الذي تتفاعلين فيه مع طفلك بأسلوب ممتِع، ويحتاج الأطفال إلى مثل هذا النوع من الوقت مع والديهم يوميًّا، أمَّا قضاؤك كلَّ لحظة من وقت فراغك أو من عطلتك مع الطِّفل، فإنَّه ليس في صالح الطفل أو في صالحك، حيث يجب أن يكون هناك توازنٌ تحافظين به على استقرارك النفسي والذهني، بحيث يمنحك قدرةً أكبر على العطاء، واعلمي أنَّ الطفل إذا لم يتعلَّم احترام حقوق والديه، فقد لا يحترم حقوقَ الآخرين.

 

الإهمال:

ويُعرف الإهمالُ بأنَّه ذلك النمطُ من سوء المعاملة، الذي يُعبِّر عن الفشل في توفير الرعاية المناسبة لعمر الطفل، شأن المسكن والملبس والغذاء والتربية والتعليم، والتوجيه والرعاية الطبيَّة وغيرها من الاحتياجات الأساسيَّة الضروريَّة لتنمية القُدرات الجسديَّة والعقلية والعاطفية، والإهمال بخلاف الاعتداء الجسديِّ والجنسي، يتسمُ بصفة الاستمراريَّة، ويتمثَّل في نمط غير مناسب من الرِّعاية والتربية، وتَسهُل ملاحظتُه من قِبل الأشخاص القريبين من الطِّفل،  والاعتداء العاطفي يتجاوز مجرَّد التطاول اللفظيِّ، ويعتبر هجومًا كاسحًا على النموِّ العاطفي والاجتماعي للطِّفل.

 

أنواع الإهمال:

الإهمال قد يكون جسديًّا: ويمثل غالبية حالاتِ سوء المعاملة الشائعة، ويشمل رفضَ أو تأجيلَ الرِّعاية الصحية الضروريَّة للطفل، وتجاهلَ الطفل وترْكَه وحيدًا بلا رقابة أو إشراف، أو معاقبته بالطَّرْد من المنزل، وعدم تلبية احتياجاته الجسديَّة والعاطفيَّة بشكلٍ ملائم، وحرمانه من الشُّعور بالأمان في بيته.

 

أو تربويًّا: ومن أمثلته السَّماح للطِّفل بالتغيُّب عن المدرسة بدون سبب، أو حرمانه من التسجيل في المدرسة، أو توفير العوْن الإضافي الذي يحتاجه في   دراسته.

 

أو طِبيًّا: ويمثل عدم توفير الرِّعاية الصحيَّة الملائمة للطِّفل، رغمَ توفُّر القدرة الماديَّة على ذلك، وفي بعض الحالات قد يُحرَم الطفلُ من الرِّعاية الطبيَّة التقليديَّة أثناءَ ممارسة بعض الطقوس الاجتماعيَّة.

 

أو عاطفيًّا: ويشمل تَكرارَ التصرُّفات الخاطئة أمامَ الطفل؛ مثل ضرب الزوجة أمامَ ناظريه، أو تحقير الطِّفل والاستخفاف بشأنه، وحرمانه من العاطفة والمحبَّة، أو حِرمانه من العلاج النفسيِّ إذا كان يحتاجه.

 

ومن نتائج هذا النمطِ السُّلوكي:

تدهورُ ثقة الطفل بنفسه، وإحساسه بعدم أهميته، وربَّما انحرف سلوكُه، واتجه إلى تعاطي الكحول أو المخدِّرات وغيرها من السُّلوكيات التدميريَّة، والتي قد تصل إلى الانتحار، كما أنَّ الإهمال العاطفي المفرِط للرضع قد يؤدِّي إلى وقْف نموِّهم وربَّما إلى الوفاة، وهذه درجة شديدة من درجات الإهمال.

 

من صور الإهمال العاطفي:

1 - البرود:

يتعلَّم الأطفال كيفَ يتفاعلون مع العالَم مِن حولهم مِن خلال تفاعُلاتهم المبكِّرة مع والديهم، فإذا كان سلوك الوالدين مع أطفالهم مفعمًا بالدِّفء والمحبَّة، فإنَّ هؤلاء الأطفال يَكبَرون وهم يروْن العالَم مكانًا آمنًا مليئًا بفُرص التعلُّم والاستكشاف، أمَّا إذا كان سلوك الوالدين يتسم بالبرود، فإنَّهم سيَحرِمون أطفالَهم من العناصر الضروريَّة لتحقيق نموِّهم العاطفي والاجتماعي.

 

والأطفال الذين يتعرَّضون للبرود بشكلٍ دائم يَكبَرون ليروا العالَم مكانًا باردًا مثيرًا للسأم، والأغلب أنَّ معظم علاقاتهم المستقبليَّة لن تكون ناجحة، كما أنَّهم لن يشعروا أبدًا بالثقة المُحفِّزة للاستكشاف والتعلم.

 

مثال على ذلك: عندما يرسم الطفل لوحةً يشعر بالفَخْر بها، ويأتي لوالديه بكلِّ حماس لينظروا فيما يراه هو إنجازًا؛ ولكنَّه يُقابل بعدم اكتراث، أو الصُّراخ في وجهه بأنَّه يُضيِّع وقته في أمور غير ذات فائدة، عمومًا فإنَّ الطفل يشعر بالبرود من والديه إذا ما كانا غير مباليين في التعبير عن مشاعرهم لإنجازات الطِّفل ونجاحاته.

 

مثال آخر على البرود: هو عدمُ حضور الوالدَين مدرسةَ الطفل عندما يُدعيان إليها، خاصَّة إذا كانت هناك فعاليات يُشارك فيها الطِّفل ويتغيَّب والداه لسبب لا يراه مقنعًا، خاصَّة إذا تكرَّر ذلك، فما يرسخ في عقل الطِّفل وذاكرته هو أنَّ والديه "لا يهتمَّان".

 

2 - التضارب:

عندما يَعلم الطفل ما هي ردة الفِعْل التي يتوقَّعها لكلِّ فعل، صحيحًا كانَ أم خطئًا، فإنَّ مهاراتِ الطفل الحياتيَّة سوف تتطوَّر، ويتعلَّم الطفل التفكيرَ بطريقة منطقيَّة؛ ولكن عندما لا يستطيع الطفلُ أن يتوقَّع نتائِجَ أفعالِه وردودِ الفعل عليها فعمليةُ التعليم - وخاصَّة في المهارات الحياتيَّة - تتأثَّر سلبًا، فضلاً عن أنَّها سوف تترك الطفلَ يعيش ضغطًا معنويًّا؛ لأنَّه لا يعلم ولا يتوقع ما هي عاقبة الأمور، خاصَّة إذا ما أراد أن يبدأ تجرِبةً جديدة.

 

مثال بسيط على التضارب: هو عندما يتصرَّف الوالدان بطرق مختلفة في أمور متشابهة، مثلاً يذهب الطفل إلى مكانٍ ما من غير استئذان، فيقوم والداه بمعاقبته بشدَّة، بينما قد يذهب مرَّة أخرى إلى المكان ذاتِه من غير استئذان، ويتغاضى الوالدان عن ذلك تمامًا من دون إعطاء أيِّ سبب يمكن للطِّفل فَهْمه واستيعابه.

 

مثال آخر على ذلك: هو عندما يَكسر الطفلُ شيئًا عزيزًا على الأمِّ في البيت، تحاول أن تُفهمَ الطفل أنَّه ارتكبَ خطأ فادحًا، وأنَّ هذا الشيء عزيزٌ عليها، وقد يكونُ سعره مرتفعًا، وكم هي يائسة الآن بعد فقدانِه، فتستخدم العقابَ الجسديَّ والنفسيَّ، وتصف الطفل بأوصاف جارحة؛ ولكن عندما تأتي صديقة العائلة مع أطفالها في زيارة إلى منزل الطِّفل، ويقومُ أحدُ أطفال الضيوف بكسر الشيء ذاته، وعندما تغضب الصديقةُ على طِفلها، تحاول الأمُّ تهدئةَ الوضع وإقناعَ صديقتها أنَّه لم يحصل شيء، وأنَّه من السهل شراءُ قطعة أخرى مماثلة، وبالتالي فإنَّ الطفل لا يستحقُّ العقاب، موقف كهذا يتركُ الطفلَ في حيرة عميقة، وثقة بالنفس هابطة، عندما يرى التضارُب والتناقض في تصرُّف أمِّه، وإذا كان بصورة مستمرَّة، فإنَّه يُخلِّف آثارًا سلبيَّةً على صحة الطفل النفسيَّة وعلى قدرته التعليميَّة.

 

3 - الرفض:

عندما يرفض أحدُ الأبوين الطفلَ، فإنَّه يشوِّه صورته الذاتية، ويُشعره بعدم قيمته، والأطفال الذين يشعرون برفْض ذويهم منذُ البداية يعتمدون على تنمية أنماط سُلوكيَّة مضطربة لطمأنةِ النفس، والطفل الذي يتعرَّض للرفض في صِغره، فإنَّه يمتلك فرصةً ضئيلة في أن يصبح طبيعيًّا عندما يَكبَر.

 

يجب أن ينتقد الوالدان أفعالَ الطفل، وليس شخصيتَه، يجب أن يوضِّح الوالدان للطفل بأنَّهم لا يرفضونه هو، بل يرفضون أفعالَه، ويحدِّدون الفعل المرفوض، هناك فرق كبيرٌ إذا ما قيل للطِّفل: إنَّ والدك يعتقد أنَّه كان بإمكانك أن تكون أفضل في المدرسة، وأن تكون درجاتُك أفضلَ، أو أن يقال له: إنَّ والدك يعتقد أنَّك إنسانٌ فاشل وكسول، لا تستطيع  أن تكون أفضلَ ممَّا أنت عليه  .

 

4 - المضايقة والتهديد:

وذلك يشتمل على تهديدِ الطفل بعقوبات شديدة، أو غير مفهومة، تُثير الفزعَ في نفس الطفل، وخاصَّة إذا ما تُرك الطفلُ ينتظر العِقاب، ولا يعلم متى، وماذا سوف يحلُّ به؟

 

قد تصل المضايقة إلى التهديد، بتحقير الطِّفل أمامَ أصدقائه، كالتهديد بكسر يدِه أو رِجله، أو طرده من المنزل، أو حتى قتْل حيوان في البيت أو إنسان يحبُّه الطفل، إذا لم يتمكَّن الطفل من إنجاز ما يُطلب منه.

 

إن آثارَ المضايقة والتهديد تُشبه آثار التحقير، وإن كانت تتضمَّن عنصرَ ضغط إضافي، والتهديد يُفزع الطفل، ممَّا يؤدِّي إلى تشويه نفسيته، وتعطيل قُدرتِه على التعامُل مع المواقف العَصِيبة أو الضغوط، فالخوف المستمرُّ، وانتظار الأسوأ يُهدِّد إحساس الطفل بالأمان والطمأنينة، ممَّا يُولِّد لديه مشاكلَ نفسيَّة، كأن يصبحَ دائمَ التوتُّر، قليلَ التركيز، قدرته ضعيفة على إيجاد علاقات اجتماعيَّة سليمة من دون مشاكل، الأمر لا يقتصر على الجانب النفسيِّ فقط، إذ قد تظهرُ عليه أعراضٌ جسديَّة أيضًا؛ منها: الضعف المستمر، وعدم القدرة على مقاومة الأمراض.

 

هذه هي الآثارُ السيِّئة المترتِّبة على الطفل من جرَّاء الإهمال بأنواعه المختلفة؛ لذا فليحذرِ الأبوان من مغبَّة إهمالهما أطفالَهما، وليسعيا إلى الاهتمام بهم، وتوفير البيئة والاحتياجات الملائمة، لتنشئتهم نشأةً سليمة؛ جسديًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا.

 

وختامًا:

الأطفال نعمةٌ من الله - عزَّ وجلَّ - وهم مصدرُ السعادة والطُّمأنينة، ومَن لا يجدُ هذه السعادةَ في بيته، فلن يجدَها في مكانٍ آخرَ:

وَأَطْيَبُ   سَاعِ    الْحَيَاةِ    لَدَيَّا        عَشِيَّةَ     أَخْلُو     إِلَى     وَلَدَيَّا[2]

مَتَى أَلِجُ الْبَابَ يَهْتِفُ بِاسْمِي الْ        فَطِيمُ   وَيَحْبُو    الرَّضِيعُ    لَدَيَّا

فَأُجْلِسُ    هَذَا    إِلَى    جَانِبِي        وَأُجْلِسُ   ذَاكَ    عَلَى    رُكْبَتَيَّا

وَأَغْزُو   الشِّتَاءَ   بِمَوْقِدِ    فَحْمٍ        وَأَبْسُطُ    مِنْ    فَوْقِهِ     رَاحَتَيَّا

هُنَالِكَ   أَنْسَى    مَتَاعِبَ    يَوْمِ        يَ  حَتَّى  كَأنِّيَ  لَمْ   أَلْقَ   شَيَّا

وَكُلُّ    شَرابٍ    أَرَاهُ     لَذِيذًا        وَكُلُّ     طَعَامٍ     أَرَاهُ     شَهِيَّا

وَمَا    حَاجَتِي    لِغِذَاءٍ     وَمَاءٍ        بِحَسْبِيَ   طِفْلاَيَ   زَادًا    وَرِيَّا

وَأيَّةُ  نَجْوَى   كَنَجْوَايَ   طِفْلِي        يَقُولُ:    أَبِي    فَأَقُولُ:    بُنَيَّا؟!

 

 ـــــــــــــــــــــ

1- نقلاً عن جريدة " الجمهورية" المصرية، ملحق"محبوبتي"، (ص: 1)، بتاريخ (2009/2/5)

2-    للشاعر : محمود غنيم.

 

المصدر : الالوكة

اکتب تعليق جديد

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.