اکتب تعليق جديد

تأثير اللغة الفارسية وثقافتها على اللغة السواحيلية الإفريقية وثقافتها (1- 2)

بقلم:   محمد نور الدين عبدالمنعم

هذه المقالة عرض لبحث كبير كتبه السيد «محمد رضا شكيبا» الخبير بهيئة الثقافة والإتصالات الإسلامية (سازمان فرهنگ وارتباطات اسلامى) تحت العنوان المذكور، وذلك فى مجلة "مطالعات آفريقا" (دراسات افريقية) العدد العاشر - السنة التاسعة 1383ش (2005م)، وهى مجلة سياسية واقتصادية وثقافية وقانونية يقوم بإصدارها مركز الدراسات السياسية والدولية (دفتر مطالعات سياسى وبين المللى) بطهران.
تعتبر الحضارة السواحيلية هى العلامة المميزة للشعوب التى تعيش على سواحل شرق إفريقيا وجنوبها ويتحدثون باللغة السواحيلية أو "كيسواحيلى". وهم يعتبرون أنفسهم من نسل الشيرازيين ويفتخرون بهذا الأمر. ولحسن الحظ أن شعوب هذه المنطقة يعتبرون هذه الخاصية شرفا وأفضلية لهم ويحترمون الشيرازيين، ويرجع هذا الإحترام إلى إهتمام الإيرانيين ورعايتهم - وخاصة الشيرازيين - بهذه المناطق وما بذلوه من جهود كبيرة فى تحسين ظروف شعوب شرق أفريقيا وخلق حضارة لا نظير لها هناك.
وقد أسس سكان هذه المنطقة من إفريقيا حضارة وثقافة جديدتين بعد أن قبلوا ثقافة العرب وحضارتهم وثقافة الإيرانيين وحضارتهم وثقافة الهنود وحضارتهم، ودمجوا هذه الثقافات مع ثقافة البانتو الإفريقية. ومن المؤكد أن إشتراك اللغة والحضارة السواحيلية مع اللغة والثقافة الإيرانية كان أكثر من غيرها من اللغات والثقافات.
وتتمتع اللغة الفارسية وثقافتها فى سواحل شرق افريقيا بمكانة ممتازة وخاصة، ولا شك أن دور الإيرانيين والشيرازيين كان دورا متميزا فى نشر الثقافة والحضارة السواحيلية، ففى سواحل شرق أفريقيا وجنوبها تعيش شعوب تعتبر نفسها من نسل الشيرازيين وتتحدث بالسواحيلية أو بالكيسواحيلى، وتعد الأخيرة شعبة من لغة البانتو وهى التى تربط بين شعوب سواحل شرق وجنوب أفريقيا المحليين الذين يكونون أحد عشر بلدا يسكنها ما يزيد على مائتين وخمسين مليون نسمة.
ويمكن تقسيم أهل اللغة السواحيلية إلى ثلاث مجموعات، المجموعة الأولى وتضم عددا ممن تكون اللغة السواحيلية هى لغتهم الأصلية، وهم نتاج إختلاط العرب والإيرانيين (وخاصة الشيرازيين) مع السكان المحليين. المجموعة الثانية وهم سكان كينيا وتنزانيا ولغتهم الأصلية هى السواحيلية، علما بأنه يوجد فى هذين البلدين أيضا أكثر من مائة لغة. أما المجموعة الثالثة فهم أغلبية سكان سواحل شرق أفريقيا من مقديشيو وحتى موزمبيق، وحتى إذا كانت لديهم لغات رسمية أخرى، إلا أنهم يستعملون تلك اللغة كوسيلة إتصال مع القبائل والبلدان المختلفة. ولهذا تمت الاستفادة تماما من كلمة دول "سواحيلى فون" فى شبكة البحث لتسمية الشعوب التى تتحدث بالسواحيلية. ويطلق على الشعوب السواحيلية (واسواحيلى) WASWAHILI وعلى تلك اللغة (كيسواحيلى) KISWAHILI.
وأهل السواحيلية أناس يعيشون فى شرق أفريقيا دمجوا حضارتهم الأفريقية (البانتو) بالحضارات العربية والإيرانية والهندية كما قلنا، وأسسوا حضارة جديدة، ويوجد تشابه كبير وأشياء مشتركة بين اللغة السواحيلية وحضارتها وبين اللغة الفارسية وحضارتها أكثر من غيرها، ومن أوجه هذا التشابه الآثار التاريخية والعادات والتقاليد، وهى تدل على تعاون المنطقتين الجاد والنشط.
- "الخصائص الجغرافية والسياسية لشرق أفريقيا وعلاقاتها مع الإيرانيين":
من أهم خصائص سواحل شرق أفريقيا سهولة وصول سكان المناطق الداخلية إلى السواحل من ناحية، وسهولة الإتصال عن طريق البحر بسكان المناطق الأخرى من ناحية أخرى. وقد أدى هذا الأمر إلى الهجرة إلى السواحل من الداخل والخارج، والتشابك الثقافى والعرقى. ومن هنا هيأت تلك السواحل خلال ألفى عام مضت سبل التواصل والارتباط بين شعوب وأقوام مختلفة، مما أدى بالتالى إلى ظهور الحضارة السواحيلية.
وترجع الحضارة السواحيلية الموجودة حاليا إلى ألف وأربعمائة عـام، ويرى الباحثون أن هذه الحضارة قد تبلورت فى تلك المنطقة مع إنتشار الإسلام وهجرة الإيرانيين والعرب، وأصبحت تتمتع بمكانة خاصة. ومع أن بعض هذه الهجرات من سواحل إيران إلى شرق أفريقيا قد تمت بعد ظهور الإسلام، إلا أن الهجرات الرئيسية والبناءة حدثت فى عام 975م بقيادة على بن السلطان حسن الشيرازى. فقد توجه هذا السلطان مع سبع سفن إلى شرق أفريقيا، تفرقت بسبب سوء الأحوال الجوية ورست فى موانئ مختلفة وإستقرت هناك، وأسست أول القطاعات الشيرازية. وبعد فترة وحد السلطان سليمان ثانى الملوك الشيرازيين عدة مدن مختلفة وحكم تسعة وعشرون سلطانا شيرازيا هذه المنطقة حتى عام 1513م.
وقد تحدث معظم المؤرخين الذين زاروا مدن شرق أفريقيا وجنوبها فى تلك الفترة عن ثراء الشعوب هناك ورفاهيتهم، وأثنوا على هذه المدن. والواقع أن زيارة مثل هذه المدن قد لفتت أنظار مؤرخين عظام من أمثال ابن بطوطة والمسعودى، فتحدثوا عن هذه المدن ووصفوها بأنها كانت من أعظم مدن العالم آنذاك. وإعتبر السيد جورج اوبونجه أن أوج الحضارة السواحيلية كان فى القرن الخامس عشر الميلادى. ذلك لأن حكومات المدن السواحيلية قد بلغت أقصى درجات القوة والإزدهار فى ذلك القرن، إلا أنها فقدت نشاطها وفعاليتها لمدة قرنين بعد هجوم البرتغاليين عليها، وأصابها نوع من الركود والخمول. وكانت هناك مدن تقع على سواحل شرق أفريقيا تتمتع قبل ذلك بقوة واقتدار عظيمين مثل لامو ومقديشيو وزنجبار وكيلوا وباجامايو ومومباسا. تلك الأجزاء من افريقيا والتى كانت تعرف بإسم السواحل السواحيلية، كانت تمتد لأكثر من ثلاثة آلاف كيلو متر من جنوب الصومال فى القرن الأفريقى وحتى شمال موزمبيق فى جنوب أفريقيا.
كانت هذه السواحل مركز اتصال ثقافى وتجارى ودينى بين سكانها وبين العالم الخارجى وخاصة بين جماعات من الشرق الأوسط والآسيويين وأوروبا منذ القرن الثانى قبل الميلاد. ومع أن سكان سواحل شرق أفريقيا كانت لديهم تجارة قبل ميلاد السيد المسيح مع العرب والإيرانيين والآسيوييــن، إلا أن ظهور مجتمعات سواحيلية حدث بين القرنين الثانى عشر والخامس عشر الميلاديين، ويدل هذا الأمر فى الواقع على تأثير الاسلام وإيران فى تكوين الحضارة السواحيلية.
وقد تأسست حكومات المدن السواحيلية التى وصل عددها إلى ثمانين مدينة كما ذكر المؤرخون، على إمتداد ساحل يصل طوله إلى ثلاثة آلاف كيلو متر، وعملت على تواصل المناطق الداخلية للقارة مع العالم الخارجى. تلك الحكومات هى دليل جيد على تطور ونمو وتحضر الشعوب الأفريقية، حتى إذا إفترضنا أن المستعمرين سعوا إلى عدم تنمية القارة وتطويرها خلال الألفية الأولى والثانية من الميلاد. وكان من أهم خصائص حكومات المدن هذه أنها كانت مستقلة ولديها أساليبها ونظمها الإدارية والسياسية للحفاظ على علاقاتها مع بعضها البعض. وقد أدى هذا الأمر فى بعض الأحيان إلى محاولة بعض الأجانب لضرب المدن بعضها ببعض، مثلما حدث على يد البرتغاليين من إثارة للفتنة بين ماليندى ومومباسا. وقد إشتهرت من بين هذه المدن الساحلية وعددها ست وثلاثون مدينة فى ذلك التاريخ بعض المدن مثل زنجبار وماليندى وجدى ومومباسا ومقديشيو أكثر من غيرها.
- من هم السواحيليون؟
السواحيليون هم سكان مدن شرق أفريقيا المتحضرون الذين أقدموا على إنشاء مدن منذ عدة قرون بالإضافة إلى عملهم بالزراعة وتربية الحيوانات والتجارة مع العالم الخارجى، ولم يكن لهذا الأمر مثيل فى كل القارة الأفريقية، ولكنه تم عن طريق إنتشار الإسلام وتغلغله فى تلك المناطق، وإذا لم تكن هذه الشعوب قد عرفت الإسلام لما حدث هذا. ومع هذا فإنه لا يمكن تجاهل الاستعداد الذاتى وقدرات هذه الشعوب فى التواصل مع شعوب القارات الأخرى.
يزعم البعض أن السواحيليين ليس لديهم عرق أو أصل معين، وأن كل من يتحدث بالسواحيلية يعتبر مواطنا سواحيليا. ومن هنا تعد اللغة السواحيلية لغة تتجاوز اللغة القبلية، وأنها كانت محل إهتمام كثير من النخبة. وقد بلغ إنتشار هذه اللغة وتداولها حدا جعل البعض يعتبرها فى عام 1940 اللغة الثانية عشرة فى العالم.
ويرى البعض أيضا أن كلمة سواحيلى تطلق على الأشخاص الذين جاءوا من نسل الأفارقة والعرب والإيرانيين وكانوا يعيشون فى شرق أفريقيا والسواحل الخاصة به.
ويعتقد جيمس فِـر آلن JAMES VERE ALLEN أنه يلزم لإطلاق صفة سواحيلى على أى شخص توفر ثلاث خصائص وهى:
1- أن يكون الشخص من أصل أفريقى.
2- أن يتحدث باللغة السواحيلية.
3- أن يكون من إحدى مناطق شرق أفريقيا.
ولا شك أن عدد السواحيليين الأفريقيين الأصلاء الذين تتوفر فيهم هذه الخصائص الثلاث قليل، ويصل عددهم إلى نصف مليون نسمة تقريبا. مع أن البعض يجعلهم مليونين فى إحصاء آخر.
وقد أدى ثراء وإتصال شعوب سواحل شرق أفريقيا مع الخليج (الفارسى) إلى التقدم والإزدهار الاقتصادى والسياسى والثقافى فى شرق أفريقيا. وكان من نتائج وإنجازات النمو التجارى إستبدال القطاعات الصغيرة بمدن كبيرة. ومن النتائج الهامة الأخرى لهذا النمو التجارى ظهور جماعات سواحيلية مؤثرة لديها القدرة على مواجهة الارستقراطية القديمة. وكانت هذه الجماعات الجديدة فى حاجة إلى فكر وأهداف وفرها لهم الإسلام عن طريق التعامل مع الإيرانيين. وعندما يجرى الحديث عن السواحيلى فى معظم الكتب التى ألفت فى هذا الصدد يتم التأكيد على ثلاثة موضوعات هى: السواحل واللغة السواحيلية والشعوب السواحيلية. ذلك لأن كل عامل من هذه العوامل قد لعب دورا هاما فى ظهور الثقافة واللغة السواحيلية وتكاملها. ويقول البعض إن تاريخ اللغة السواحيلية مرتبط بالظروف الجغرافية لسواحل شرق أفريقيا التى تقع بين مقديشيو وموزمبيق، وتمتد لعدة آلاف من الأميال طولا وأربعين ميلا عرضا. هذه اللغة السواحيلية والتى تسمى أيضا كيسواحيلى (كى فى اللغة السواحيلية بمعنى لغة) تربط ثلث القسم الجنوبى من أفريقيا من القرن الأفريقى وحتى جنوب أفريقيا مع بعضه البعض.
وتعتبر حكومات المدن التى أقامها الإيرانيون منذ مطلع الألف الثانية وما تلاها دليلا على تغلغل الإيرانيين وتأثيرهم العميق فى تلك المناطق. وقد نوه السيد "آلن" إلى هذا الموضوع بطريقة جيدة وأعلن عن مخالفته لرأى أحد المتخصصين فى الدراسات الأفريقية حول عدم وجود تأثير للإيرانيين هناك.
ويرى السيد "كالب" أن السكان المحليين لسواحل شرق أفريقيا وجنوبها قد إستمدوا ثقافتهم وديانتهم من الشيرازيين، والدليل على ذلك التشابه الكبير بين العناصر الثقافية فى البلدين بسبب إنتشار ثقافة الشيرازيين ولغتهم ومذهبهم فى شرق أفريقيا. ويقول إنه طبقا للواقع التاريخى فإن اللغة السواحيلية مأخوذة من الشونجوا الشيرازية. ويرى "آلن" أيضا مثل هذا الرأى إذ يقول إن الشونجوا تطلق على منطقة ممتدة على السواحل شرق أفريقيا. ويقول "كالب" لقد إنتشر الاسلام واللغة السواحيلية بسرعة نظرا لإهتمام الشعوب وترحيبهم بهما، وأصبحا مظهرا من مظاهر الثقافة المحلية. وقد حدث هذا الأمر قبل تواجد العمانيين فى سواحل شرق أفريقيا ويطلق "كالب" عليهم إسم العرب. وطبقا لما ذكره "كالب" فإن اللغة والدين فى سواحل شرق أفريقيا قد تطور وتبلور عن طريق الشيرازيين.
- "مرحلة تكوين اللغة السواحيلية وثقافتها":
تمكنت الشعوب الناطقة باللغة السواحيلية فى شرق أفريقيا بعد تشكيل حكوماتها الذاتية الصغيرة إقامة علاقات مع المناطق الداخلية فى القارة وبذلت جهودا من أجل تنفيذ أعمالها التجارية. وقد أدت اللغة السواحيلية وثقافتها دورها فى الربط بين هذه الشعوب وجماعات أخرى كثيرة، وكانت سببا فى التقارب بين هذه القبائل وقبول الدين الإسلامى من كافة شعوبها.
وهناك نظريتان بخصوص حكومات شرق أفريقيا إحداهما أن حضارة شرق أفريقيا ما هى إلا نتاج جهود الإيرانيين والعرب الذين هاجروا إلى هناك وعرفوا الناس على الإسلام وثقافته، ولما كانت تلك الثقافة وذلك الدين له أفضلية وتفوق على الديانات الأفريقية، فقد أدى ذلك إلى ظهور حضارة وثقافة سواحيلية.
أما النظرية الثانية، فهى أن إفريقيا كان لها دور فعال فى التعامل مع المسلمين والثقافة الأجنبية، وكانت الأسر الحاكمة ذات أصول أفريقيـة، ولم تكن الشعوب والجماعات السواحيلية تتمتع فى أى وقت من الأوقات بتلك الوحدة التى يتبع فيها الجميع مركزا واحدا وحكومة واحدة، ويبدو أنهم لم يكونوا يفكرون فى هذا الأمر أصلا. ومع ذلك فقد أعطوا للتعاون مع بعضهم البعض والمعاملات التجارية أهمية كبيرة وسعوا لتحقيق هذا. بدليل أن سواحل شرق أفريقيا ظلت حتى وقت سيطرة الإستعمار على أفريقيا ملاذا آمنا للتجار والتجارة دائما وكانت تتمتع بإزدهار وعلاقات خاصة.
وبشكل عام فإن ظروف أفريقيا لم تكن تسمح لها بإيجاد مركزية سياسية وحكومية، وكان الناس يفضلون العيش فى جماعات صغيرة ويشرفون على ممتلكاتهم وبلادهم. ولا شك أن الفارق بين حياة القبيلة والإمارات وحياة الحكومة كبير، ومع هذا فإن الثروة والعلاقات بين سكان سواحل شرق أفريقيا وبين الخليج الفارسى أدت إلى إزدهار إقتصادى وسياسى وثقافى فى هذه المناطق. ومن إنجازات النمو التجارى تبديل المناطق الصغيرة بمدن كبيرة وظهور جماعات مؤثرة سواحيلية أمكنها التصدى للأرستقراطية القديمة. وكانت هذه الجماعات الجديدة فى حاجة إلى فكر وأهداف حققها لها الإسلام. والواقع أن إتصالهما بالإيرانيين والعرب أدى إلى تعرفهما على الإسلام.
- "الإيرانيون فى شرق أفريقيا وجنوبها"
عرف الإيرانيون القدماء أفريقيا وكانت لهم علاقات مع هذه القارة. وقد بدأت هذه العلاقات منذ عام 550 قبل الميلاد عندما بسط الهخامنشيون سلطانهم ونفوذهم حتى حدود مصر. فضم داريوش الملك الهخامنشى شرق أفريقيا لمملكته. والواقع أنه إهتم إهتماما خاصا بالملاحة البحرية بسبب الأهمية التى كان يوليها لإيران والهند ومصر وأنفق فى هذا الصدد المال الكثير، وإستطاع أن يوسع عن هذا الطريق تجارة بلاده وسلطة الهخامنشيين. وفى هذه العصور كانت إيران تستورد من شرق أفريقيا الذهب والعاج والأخشاب والطيور النادرة، وترسل لها فى المقابل بضائع مختلفة. وقد حدثت هجرات لمجموعات إيرانية إلى مناطق مختلفة من العالم فى تاريخ إيران القديم، وقد فصل القول فى هذا الموضوع المرحوم الدكتور ذبيح الله صفا فى كتابه «التأثير الثقافى للإيرانيين». وطبقا لما ذكره «هيرودوت» فقد كان الإيرانيون من أقدم الشعوب التى عرفت الملاحة البحرية وكانت تحسن دائما خبراتها فى هذا المجال. وقد أقبلوا على السفر عن طريق البحر منذ بداية تشكيل السلطنة الآرية، وسافروا إلى مناطق مختلفة من العالم. ومن ثم وطبقا للشواهد الموجودة، فقد إختار بعض الإيرانيين الإقامة فى شرق أفريقيا وتواصلوا مع السكان المحليين هناك.
إشتهرت سواحل شرق أفريقيا عند پريپوليس وافلاطون بإسم آزانيا، وأطلق العرب عليها إسم بلاد الزنج. وكان الإيرانيون والهنود واليهود والعرب والفينيقيون والآشوريون من أوائل الشعوب التى هاجرت إلى تلك المناطق.
والواقع أنه لا يمكن تصور أن الإيرانيين الذين كانوا فى وقت من الأوقات يعدون أعظم قوة فى العالم واستولوا على بابل ومصر وشمال الهند منذ عام ستمائة قبل الميلاد وحتى قسم من عام ستمائة بعد الميلاد وحاربوا اليونانيين حروبا طاحنة، غفلوا عن الإهتمام بشرق أفريقيا. فقد جاء فى التوراة أن كوروش ملك الإيرانيين كان يحكم 127 ولاية تمتد من الهند وحتى كوش فى منطقة النيل.
ومن الجدير بالذكر أن قلة الوثائق المكتوبة أدت إلى شك البعض بخصوص تواجد الإيرانيين وتأثيرهم فى هذه المناطق ولم يدلوا برأى قاطع فى هذا الخصوص، ذلك لأن الوثائق المكتوبة التى تدل على علاقة أفريقيا بمختلف أنحاء العالم تبدأ منذ القرون الأولى لدخول الإسلام هناك، ولا نجد ذكرا لذلك قبل هذا العهد سوى فى إشارات قليلة. فى حين أن هذه العلاقات والصلات بين هاتين المنطقتين كانت أقدم من ذلك. غير أن هذه الوثائق والمستندات تدل على تواجد الإيرانيين فى سواحل شرق أفريقيا. وقد أكد الجميع على تواجد الإيرانيين ونشاطهم فى سواحل شرق أفريقيا وجنوبها وأن الإيرانيين كانوا يعرفون شرق أفريقيا منذ عهد الهخامنشيين وكانوا يتبادلون التجارة والثقافة مع شعوب هذه المناطق. ويؤكد هذا الأمر الحفريات والآثار التى عُثر عليها مؤخرا فى سواحل شرق أفريقيا وجنوبها.
أما بخصوص تعامل شعوب شرق أفريقيا مع غيرها من شعوب العالم فهناك نقاط كثيرة ذكرت، إلا أنه يبدو أن تأثير الإيرانيين كان أقوى من تأثير غيرهم من شعوب العالم. ذلك لأن الإيرانيين فقط كانوا يعدون المهاجرين النشطين والمؤثرين فى شرق أفريقيا ولم يتعاملوا فى مسألة العبيد. كما أن البحث فى الآثار التاريخية الكثيرة والمتنوعة الموجودة فى أفريقيا يدل على التعاون الوثيق الذى كان قائما بين الإيرانيين والسكان المحليين. وكان البلوش والشيرازيون من ضمن الجماعات الكبيرة والمتوافقة التى هاجرت لشرق أفريقيا وأسست هناك مدنا عامرة ومزدهرة، وبالإضافة إلى قبولها للثقافة المحلية فقد نشرت أيضا ثقافتها وحضارتها التى ما زالت حية باقية فى تلك المناطق حتى يومنا هذا ولها إحترام ومكانة عظيمة. ومن الجدير بالذكر فى هذا الصدد أن كرومه أول رئيس لجمهورية زنجبار بعد إتحاد بلاده مع تنزانيا نهض لمعاداة الشيرازيين فى تلك البلاد نظرا لنفوذهم وعمل جاهدا على إبعادهم من ذلك المجتمع. ومع كل هذه المضايقات فما زال الشيرازيون والإيرانيون يتمتعون بإحترام خاص فى هذه المنطقة.
يقول البروفسور "سيميو" لقد كان لهجرة الإيرانيين إلى أفريقيا تأثيرات معقدة ومتنوعة كثيرة، تركت أثرها على كل أبعاد حياة سكان شرق أفريقيا وجنوبها، ولعبت دورا رئيسيا فى تكوين الثقافة السواحيلية. كما يعتقد الدكتور "لهسائى زاده" أيضا أن إنتشار نفوذ الإيرانيين وتواجدهم فى شرق أفريقيا ناتج من أربعة عوامل هى:
1- كان الإيرانيون من الناحية الإقتصادية هم همزة الوصل التجارية بين آسيا وشرق أفريقيا، وأقاموا علاقات تجارية بين المنطقتين. والواقع أن أهمية وإزدهار شرق أفريقيا يرجع إلى جهود الإيرانيين الإقتصادية فى مدن هذه المنطقة وخاصة فى زنجبار.
2- من الناحية السياسية، فقد كان الشيرازيون مؤسسين للنظم المؤثرة والفعالة فى تلك المناطق وقد إستمرت هذه النظم لعدة قرون. فقد كانت لديهم السلطة العسكرية والنفوذ السياسى فى المنطقة وقد إستمر الحال هكذا لقرون عديدة فى مواجهة الأجانب. حتى أن النخبة السياسية فى الأحداث الأخيرة التى وقعت فى زنجبار كانت من شيراز.
3- من الناحية الإجتماعية، فقد كان الشيرازيون يتكونون من طبقات متعددة، وكانوا متواجدين على كل مستويات المجتمع، وكانوا ضامنين للحفاظ على الحكومة وبقائها. ومن أهمهم التجار والنخبة السياسية والبقية المتواجدة بين طبقات المجتمع.
4- من الناحية الثقافية، فقد أثر الإيرانيون تأثيرا عميقا فى المنطقة. فبالإضافة إلى جهودهم فى نشر الدين الإسلامى أثروا أيضا تأثيرا كبيرا فى ثقافة الشعوب وعاداتهم ومعتقداتهم. ومجرد نظرة على أوجه الشبه والأشياء المشتركة بين اللغتين السواحيلية والفارسية تدل على التأثير العميق لكل منهما فى الأخرى. ولا شك أن اللغة السواحيلية قد تأثرت باللغة الفارسية، وأن بنية اللغة السواحيلية تتشابه كثيرا مع بنية اللغة الفارسية. أضف إلى هذا ملاحظة وجود عادات وتقاليد وثقافة إيرانية وشيرازية فى المنطقة بشكل واضح. فالأبنية التاريخية فى شرق أفريقيا متأثرة بشكل كبير بالعمارة الإيرانية وخاصة فى زنجبار، مما يدل على عمق العلاقات بين البلدين.
- "الشيرازيون ودورهم فى بلورة الحضارة السواحيلية الأفريقية"
يقال إن الشيرازيين كانوا أول جماعات سكنت فى شرق أفريقيا وبدأوا التعامل مع أهل هذه المنطقة، وأقدموا بمساعدة السكان المحليين على خلق ثقافة مختلفة ودائمة ومقتدرة. وقد وضع الشيرازيون أقدامهم على سواحل شرق أفريقيا كجماعة منسجمة مع بعضها ولديها التنظيمات الضرورية وأسسوا حكومة منسجمة وقوية، أثرت بشكل كبير فى الثراء الثقافى والنمو الإقتصادى والإجتماعى فى شرق أفريقيا.
وطبقا لما ذكره البروفسور «عبدول شريف» مستشار رئيس متحف زنجبار بتنزانيا، فإن شعوبا تعيش على طول ساحل شرق أفريقيا من ميناء صوماليا فى الشمال وحتى أقصى نقطة شمال مدغشقر فى الجنوب، يدعون بأن أصولهم ترجع إلى إقليم معروف فى إيران بإسم شيراز.
وقد توطدت الصلات بين العرب والإيرانيين وخاصة الشيرازيين الذين هاجروا من شواطئ الخليج (الفارسى) إلى سواحل شرق أفريقيا وقبلوا تلك المنطقة على أنها موطن أصلى لهم، وبين السكان المحليين، وقبلوا الثقافة الإفريقية بجانب ترويج ثقافتهم وديانتهم ونشرها. وترجع جذور اللغة السواحيلية إلى لغة الـ«شينيوا» الشيرازية، وهذا يدل على إمتزاج الثقافة المحلية بالثقافة الشيرازية.
قام السيد «كيماريو» فى تقرير له بعنوان (مدن شرق أفريقيا الساحلية، هل هى أفريقية أم آسيوية) بدراسة تأثير الإيرانيين على هذه المناطق وإعتبر أن دورهم فى الثقافة واللغة السواحيلية دورا هاما وحيويا وذكر أن الشيرازيين هم أول المهاجرين الذين هاجروا إلى سواحل شرق القارة بالإمكانيات والقدرات اللازمة، وإعتبروا هذه المناطق مناطق مناسبة للهجرة وإختاروا الإقامة فيها. وترجع معظم الآثار القديمة فى شرق أفريقيا تقريبا إلى الإيرانيين، فقد إختاروا السكنى فى مدن مختلفة وشيدوا بعض الآثار المحلية حتى تقلل من هموم الغربة عندهم. ومن أوائل هذه الآثار مسجد كيزيمكازى فى زنجبار، وهو الآن موضع إهتمام من السائحين. كما أنهم كانوا ينظرون إلى الإسلام على أنه أسلوب حياة فى الدنيا والآخرة ويؤمنون بذلك إيمانا راسخا. وقد إمتزج هذا الدين الجديد ببعض الأفكار والعادات الأفريقية، غير أن «ابن بطوطة» الذى زار مناطق شرق أفريقيا أثنى على إخلاص الأفارقة وإلتزامهم بالمشاركة فى الصلاة وإيمانهم وإهتمامهم بتعليم الاسلام لأبنائهم.
وتوجد فى كل المدن الساحلية فى شرق أفريقيا وجنوبها أماكن تاريخية قديمة كثيرة تتشابه كثيرا مع أبنية المدن الساحلية الإيرانية وخاصة سيراف (ميناء طاهرى الحالى). كما أن التشابه فى العادات والتقاليد الثقافية موجود بكثرة أيضا فى البلديـن. ومن ثم فإنه ليس من المستبعد أن نزعم بأن سواحل شرق وجنوب أفريقيا كانت تعد فى الواقع الحدود الثقافية لإيران، وكانت منذ أكثر من خمسة وعشرين قرنا موضع هجرة وإقامة الإيرانيين. وفى هذا الصدد يمكن حتى المقارنة بين حضارة وثقافة شرق أفريقيا وبين غربها، حيث تواجد العرب فى كلا المنطقتين وتواصلوا مع السكان المحليين، إلا أن التأثير الذى حدث فى الشرق على السكان هناك لم يتيسر حدوثه فى الغرب. ومن ثم فإن الحفاظ على الإرتباط والإزدهار كان من الواجبات الأصلية للإيرانيين.
ومع أن معلوماتنا المكتوبة عن حكومة الشيرازيين فى سواحل شرق وجنوب أفريقيا قليلة، وهى غالبا مأخوذة من الآخرين، إلا أن نفس هذه المعلومات المحدودة والشواهد الموجودة إنما تدل على التواجد المؤثر والفعال للإيرانيين فى شرق أفريقيا وتأثيرهم الكبير فى المجالات الثقافية والدينية والحضارية. هذا بالإضافة إلى أن الآثار التاريخية الموجودة فى سواحل شرق أفريقيا وخاصة فى زنجبار ومومباسا وماليندى ولامو وكيلوا وبابامايو إنما تدل على الصلات القوية التى كانت تربط بين سكان البلدين. وتعد زنجبار أهم مدينة سواحيلية، وبالإضافة إلى أنها تعتبر الموطن الرئيسى للشيرازيين، فإن إسمها أيضا إسم فارسى، لأنه مكون من كلمة زنج بمعنى السود وبار التى تطلق على المنطقة. ولا شك أن إختيار إسم فارسى لتلك المنطقة إنما يدل على عمق إرتباط البلدين وقدمه.
وقد أشار «الدكتور عبدالسلام فهمى» خلال مقارنته بين تواجد الشيرازيين والبرتغال فى سواحل شرق أفريقيا إلى التأثير السلبى لأعمال المستعمرين البرتغاليين على تلك البلاد، ويعتقد أن الشيرازيين كانوا يسلكون سلوكا إنسانيا مع السكان المحليين، ومن هنا أقاموا معهم علاقات وأثروا تأثيرا نافعا فى تلك البلاد. وهذا التأثير موجود فى كل المجالات الثقافية والحضارية والمعمارية واللغة والعادات والتقاليد وغير ذلك، وربما يرجع السبب فى ذلك إلى الحضارة القوية التى كانت لدى الإيرانيين وإهتمامهم بالتعمير والبناء. ومن ناحية أخرى فإن تواجدهم فى أفريقيا لم يكن بهدف الإستعمار وإخراج سكان هذه المناطق، بل كان هدفهم هو إقامة علاقات مع الأفارقة على أساس الأخوة الإسلامية، وكانت هذه الأخوة هى شعارهم الدائم.
وينسب كافة الباحثين تقريبا تأسيس المدن السواحيلية إلى تواجد الإيرانيين حيث سافروا إلى السواحل بإمكانياتهم الضخمة واستوطنوا هناك وعاشوا مع السكان المحليين. ويقول المسعودى الذى زار سواحل شرق أفريقيا فى عام 945م تقريبا إن السكان هناك كانوا من الزنج أو السود. وطبقا لما ذكره «نورمان بنت» نقلا عن المسعودى أن بعضا من العرب والإيرانيين أقاموا بين السكان المحليين فى ذلك الوقت ونسوا لغتهم وإستعملوا لغة الزنج.
دور الإيرانيين فى تأسيس حكومة المدن السواحيلية.


مجرى العيون. سور يروى عطش السلطان

أخلاق الايرانيين وعاداتهم فى العصر الصفوى من خلال رحلة اولياريوس

مجلة «گـل آقا» الأسبوعية أشهر مجلة نقدية ساخرة بعد الثورة الإسلامية 1/ 2

رحلة ابن فضلان وترجمتها بالفارسية

الصحافة الإيرانية. النشأة والتطور

تركيا والعالم العربى.. علاقات محسوبة

ملابس الإيرانيين 2- 2

التربية والتعليم فى إيران

المؤسسات الدولية وديون العالم الثالث

ترجمة الشعر الفارسى إلى شعر عربـى قديماً وحديثــــاً

مصدر:  .جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام2010

 

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.